صفحات ثقافية

مرايا الزمن: فن مقاومة النسيان

null
شوقي بزيع
يكشف ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية”، الذي نقله الى العربية بدر الدين عرودكي، عن قدرة مدهشة على الإحاطة بثقافة عصره بقدر ما يكشف عن وعي عميق للموقع الطليعي الذي تحتله الرواية بين نظائرها من الأنواع الأبية والفنية المختلفة، إن أول ما نشعر به ونحن نتقدم ببطء ومتعة شديدين في قراءة الكتاب هو حرص المبدع الحقيقي على امتلاك رؤية خاصة للعالم بحيث تتحول الكتابة عنده الى ترجمة لهذه الرؤية ومفتاح لفهمها. هكذا يصبح الكلام على الابداع عند الكاتب الريادي جزءاً لا يتجزأ من الإبداع نفسه، بل لعله يضاهيه خصوبة وثراء في الكثير من الأحيان.
كل كاتب عظيم بهذا المعنى هو ناقد عظيم بقدر ما هو راءٍ ومستكشف وصاحب مشروع متفرد. ذلك على الأقل ما يشعر به القارئ المتفحص وهو يتتبع الأعمال النقدية الموازية لشخصيات أدبية وفكرية متنوعة من وزن كولردج وشيلر واليوت وبات وبورخيس. فكل واحد من هؤلاء وغيرهم من الوزن نفسه، يمنحنا شعوراً عالياً بالدهشة وهو يقلص الى حد بعيد المسافة بين منجزه الابداعي وبين آرائه النظرية أو سيرته الحياتية والأدبية. يكفي ان نعود في السياق ذاته الى مذكرات بابلو نيرودا “أشهد أنني قد عشت” أو سيرة ماركيز “عشت لأروي” أو شهادة مارغريت دوراس عن “الكتابة” ولوركا عن “الروح المبدع” أو سارتر عن “الكلمات” لنتبين أن المس باللغة لا ينحصر في حدود الأعمال الابداعية الأصلية وحدها، بل ينسحب على المفاهيم والمدركات بكافة تجلياتها وأطيافها.
يقودنا كونديرا في كتابه المدهش “فن الرواية” إلى المناطق التي تخرج الأدب من بعده الانشائي والوصفي لتجعله تلمساً لما يفيض عن الاختبار والمعاينة ويتصل بالحدس والاستشراف. ففي كل أدب حقيقي وفق صاحب “الحياة في مكان آخر” قدرة هائلة لا على الإحاطة بالناجز أو الراهن فحسب، بل على استشعار ما تخبئه قشرة الأرض من زلازل وانزياحات. وهو بذلك يلتقي مع نوفاليس الذي يربط بين الأدبي والديني أو النبوئي ولو أنه لا يتطابق معه في أمور كثيرة. وفي القسم السادس من كتابه الموضوع تحت عنوان “سبع وسبعون كلمة” يعمد كونديرا الى انتقاء الكلمات الأكثر فعالية ودلالة في عالمه الروائي ليجعل منها قاموساً صغيراً ومكثفاً يختزل بواسطته جملة آرائه ومعتقداته.
بكلماته السبع والسبعين تلك يعيد المؤلف تعريف الفاتيح اللغوية بما يحقنها بأمصال جديدة ويعطيها طزاجة المعنى وقوة التسمية. فالرواية بحسب كونديرا هي “الشكل الأكبر من النثر الذي يفحص فيه المؤلف حتى النهاية وعبر ذوات تجريبية (شخصيات) بعض تيمات الوجود”. هكذا لا تعود للشخصيات قيمة بذاتها بل بحجم قدرتها على التحول الى ساحة اختبار لمعنى الوجود القلق والرجراج. وأعظم الروايات في نظر كونديرا هي التي حمل أبطالها أبعاداً مفهومية ووقفوا على شفير الخيارات الصعبة مجازفين بأنفسهم في سبيل ما يعتقدون أنه الحقيقة، ليست الرواية تبعاً لذلك هي مجرد توصيف حاذق لما هو مرئي من حركة الواقع بل هي نوع من “الاستجواب التأملي” لما يدور في الخفاء مرهصاً بالتحولات التي تعقبه.
من الطبيعي اذاً أن يرى كونديرا في عمل سرفانتس العظيم “دون كيشوت” الرواية الأهم في العصور كافة. ذلك أن طواحين الهواء التي انبرى دون كيشوت وتابعه سانشو لمحابرتها ليست سوى المفتتح الرمزي للعصور الحديثة التي ينازل الانسان فوق ساحتها الوحش الموزع بين أنياب الآلة وأنياب العبث واللامعنى. كان سرفانتس من هذه الزاوية هو المؤسس الحقيقي لعالم كافكا الجحيمي الذي كان عليه أن ينتظر عقوداً طويلة لكي يلتقط رسالة سلفه الإسباني ويصفي حسابه مع بقايا الأمل الراشح من حروب دون كيشوت.؛
يعلن كونديرا في غير مكان من كتابه خوفه على الرواية بما هي الوسيلة الأنجع لمقاومة النسيان. ذلك ان المؤسسة البيروقراطية الهائلة التي تتحكم بالغرب ليست سوى النظير غير المعلن لمجتمع الاستبداد الذين يحول الناس الى حشرات أو قطع غيار. والوحش الذي يتخذ أشكالاً عدة تتراوح بين سطوة النظام الرأسمالي المريع وسطوة الأنظمة الشمولية العاتية لا يريد للضحية أن تحظى بما يعينها على التذكر. ولأنه يراهن على العتمة والمحو والنسيان التام فهو يجد في الرواية سلاح الضحية الأنجع في وجه الخنوع واليأس والموت.
إن من يمتلك الرواية يمتلك الذاكرة والتاريخ وقوة المقاومة، بحسب كونديرا. لهذا السبب على الأرجح آثر أحد رموز الاستبداد الراحلين أن يصادر حق الضحية في التذكر أو السرد لكي يحتفظ لنفسه بكل شيء، ولكي يكون هو نفسه الراوي والرواية والأبطال. وثمة آخرون غيره من قادة العالم، وبخاصة في العالم الثالث، حاولوا الشيء ذاته وأرادوا أن يتولوا بأنفسهم رواية التاريخ وطمس كل ما يتعارض مع صورتهم المتضخمة وإحساسهم العارم بالخلود، إلا أن هذه الروايات والقصص التي كتبوها، أو كلفوا من يكتبها باسمهم، لن يتاح لها البقاء بعد رحيلهم ولو لسنوات قليلة نظراً لرداءتها المتفاقمة والمليئة بالتعسف والافتعال.
أما الرواية الحقيقية للتاريخ “السفلي” الذي يمثله بناة العالم المجهولون فلن يكتبها إلا أولئك الممسوسون بنار الابداع مثل ميلان كونديرا وقلة آخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى