صفحات ثقافية

الشاعر ممثلاً : أسطورة المطارد والعاشق

null
محمد الأسعد
ما الذي نعنيه حين نقول إن هذه القصيدة خطابية تصلح للإلقاء، وأخرى كتابية تصلح للقراءة؟
ما الذي نعنيه بالنجاح الجماهيري للقصيدة؟
ما الذي يعنيه الشعر حقاً، سواء بالنسبة للشاعر أو بالنسبة للجمهور؟
وما الشعر أصلا؟ هل النمط الذي ألفناه في القصيدة التقليدية التي يخاطب فيها الشاعر جمهوراً وينتظر منه تصفيقاً، أم هو هذا النمط الذي يكتبه الشاعر منفردا وكأنه يتحدث الى نفسه في زاوية هادئة من بيته؟
لماذا يصفّق الجمهور عند مناطق معينة، ولا يصفق عند أخرى؟ وما الذي يسثيره الشاعر فيه؟ هل يستثير استجابات عضوية بحتة أم ادراكات عقلية مجردة؟ أم الاثنتين معاً؟
هذه الاسئلة والعديد مثلها، كانت تتوالد في ذهننا ونحن نشهد مهرجانات الشعر العربي، لنجيب ونصيب، أو نجيب ونخطىء.
كان همنا أن نعرف أسرار هذا المسار الممتد بين المنبر والجمهور، وفحوى الاشارات المتبادلة بين الاثنين على امتداده. وبالتالي الدخول إلى دلالة أو دلالات هذا الحدث الشعري حين يقرأ الشاعر قصيدته فيصفق الجمهور تارة أو ينصت تارة أخرى، أو يتشاغل الجمهور تارة أو ينسحب بأدب تارة أخرى.
تشيع في أوساط المهرجانات كلمة “الجلد”، وهي كلمة يطلقها بعض الشعراء هازلا أو جادا على عملية إلقاء بعض القصائد. فكنت تجد من يقول لك “لقد جلدنا اليوم” كناية عن سوء الشعر الذي سمعه. أو يقول لك “كانت قصائد جيدة أو ممتعة” كناية عن استحسان لما سمع من شعر. حديثنا لاينصرف الى المعنى الأول الذي كان غالبا، ولكنه ينصرف الى النوع الثاني: الاستحسان الذي يعبّر عن نفسه بكميات التصفيق الذي تحظى به قصائد معينة.
فما الذي يحدث حين يتلقى الجمهور قصيدة ما فيصفق طويلا؟ هل يرجع ذلك الى تقنية الإلقاء؟ نعرف كثيراً من القصائد تلقى بأداء عال وتحظى بالتصفيق فعلا. وهذه القصائد نفسها أو ما يماثلها يلقى بطريقة سيئة ولا يجد صدى عضوياً على الأقل.
الجواب ليس سهلاً على الاطلاق، والإجابات التالية كُتبت كمحاولة إجابة من واقع تجربة الاستماع الى الشعر وتجربة إلقائه في مهرجانات حاشدة ضمت صنوفا من الشعراء تراوحت قصائدهم بين التقليدية والحداثية أو ما بينهما من تزاوج، وتراوح مصدرها بين موريتانيا والخليج وما بينهما من أقطار عربية.
في البداية كانت لدينا أفكار معينة عن طبيعة ما يسمّى القصيدة الخطابية والقصيدة المهموسة أو التأملية. وكنا نعتقد أن الخطابية صفة عضوية ملتصقة بنوع من القصائد يستثير حماس الجمهور للتصفيق، ثم يتلاشى كل أثر للقصيدة. وقد ثبت أن هذه الأفكار غير دقيقة في توصيف أحداث شعرية غريبة. فثمة قصائد تأملية حظيت بالحماس، وثمة قصائد خطابية حسب مفهومنا الأولي لم تجد أذنا صاغية، ناهيك عن يد متحفزة. والعكس صحيح أيضا. لنبدأ اذن من التجربة.
خلال الاستماع إلى عدد من القصائد لاحظنا أن الجمهور يصفق بارتياح عند وصول الشعراء إلى نقطتين متنافرتين: الأولى النقطة التي يثير فيها الشاعر حالة من المهانة والإذلال في نفس المستمع مستخدما ضمير “نحن”، والحالة الثانية تلك التي يثير فيها الشاعر حالة من العلوّ والارتفاع في نفس المستمع الى درجة “السوبرمانية” الخارقة. والملاحظ في كلتا الحالتين أن مدة التصفيق تزداد حيثما ورد ضمير “نحن” أما حين يرد ضمير “أنا” فحالة الحماس لا تحدث إلا حين تكون الأنا المعبر عنها هي الأنا السوبرمانية.
ولايتحمس الجمهور لحالة الانخذال والمهانة الفردية اذا جاءت في سياق “الأنا” فقط. أي حين لايتظاهر الشاعر أنه يعبر عن “وعي جمعي”.
المهم في كل ذلك، أن الحماس والتصفيق يحدثان أمام حالتين متنافرتين لا يمكن أن تجتمعا في الوعي. بمعنى أنه لو كان الوعي هو الذي يتلقى هاتين الحالتين لما استطعنا أن نسميه وعيا سويّاً. وبما أننا نفترض أن الجمهور حالة وعي، اذن فالسؤال هو: أين تلتقي هاتان الحالتان؟ وجوابنا هو انهما تلتقيان بين الكفّين.
أي أن الرسالة لا تصل الى ذهن المتلقي بل تأخذ طريقها مباشرة الى جهازه العضوي، الى الشبكة العصبية. وحتى تأخذ الرسالة طريقها من المنبر الى المتلقي وتستقر في هذا الجهاز كجهاز حركي، فلا بد أن تكون تضمنت ما يحفز هذه الحركية. وهذا ما يحدث فعلا. القصيدة الموجهة لتحريك أعصاب اليدين أو القدمين أو الحنجرة تتميز بصفات خاصة. إنها تستفيد من فن الإلقاء استفادة تامة، تبنى من جمل قصيرة، أو يقطّع الشاعر جملة طويلة متعمّدا لتقصير المسافة الزمنية وعدم منح الدماغ فرصة لتحليل المضمون المعنوي وإيجاز حركته بالمضمون الإيقاعي، أو استباق الحركة المعنوية.  وهكذا فإنّ ما يدرك سريعا يكون هو المفضل، أي ما هو قريب من الحسّ اولاً، وما هو قريب من المدارك العامة ثانياً، وما هو صوتي ثالثا.
ثم إن هذه القصيدة تبنى وفق اقتصاديات الإثارة العصبية: بدءاً بالإثارة ثم الوصول الى ذروة الجهد، فالانسراح الذي يرافق تفريغ الجهد العصبي. وهذا الفعل لا يجب أن يكون تسلسله طويلاً بل مختصرا الى أدنى حد ممكن. ما يجعل هذه القصيدة تعتمد على نمط تكويني خاص هو نمط “الدورات” المتسلسلة. أو البيتين أو الثلاثة اللذين تسمح الدورة خلالهما بإعطاء الشحنة العصبية مداها التأثيري بلا إيجاز مخلّ أو تطويل مرهق. ولا يمكن أن يتم إغلاق الدورة إلا بضربة من قافية أو جناس إيقاعي بين الألفاظ.  وهذا هو السبب الذي يجعل وحدة البيت أو الثلاثة الأبيات ضرورية كما هي ضرورية وحدة القافية. إنها قضية تتعلق بطبيعة الاستثارة للجهاز الحركي الذي يردّ بالتصفيق أو الشهيق أو بضرب القدمين قبل أن يكتشف الدماغ ما حدث فعلا وما سمع. وحينما يكتشف، يكون ذلك تحت وطأة التأثير الطاغي لمناسبة الإلقاء. فإذا انتبه الدماغ وفكّر في مابعد يكون الأوان قد فات،  فيشك المستمع في سلامة فهمه لا في سلامة ما سمع. وحتى الآن مازلنا نسمع من يقول إن القصيدة التي حللنا لعبتها ستكون مختلفة حين تقرأ على الورق. فليس هنالك من يصفق للحروف الأبجدية. لأن قراءة المكتوب تمنح الدماغ وقتا قبل أن تصادره ردود فعل الحواس الحركية.
هل ما نصفه هنا هو القصيدة التقليدية؟
بالضبط، فكل هذه الأساليب في تكوين القصيدة تطرحها القصيدة الحديثة جانباً، فهي لا تحدّد أطوالا معينة للجملة الشعرية، ولا تهتم بما يُدرك سريعا في ذهن المتلقي وما هو قريب من مداركه، ولا تستولي عليها رغبة التصويت، بالاضافة الى إلغائها لمبدأ الدورات المتسلسلة. إنها شكل مختلف ورؤية مختلفة. ولكن هذا لا يعني قطعا أن القصيدة الحديثة لا تنجح في مواجهة الجمهور ولا تستثير حماسته أو تصفيقه، بل إن الكثير من القصائد الحديثة حظيت بنسبة أعلى مما حظيت به القصيدة التقليدية حماسا واعجابا وتصفيقاً، ولكن السبب لا يرجع الى بنية الحداثة في هذه القصيدة، بل يرجع إلى جانبين: الأول الاعتماد على تقنية الإلقاء المسرحي،   والثاني المزاوجة بين نمط الكتابة ونمط الخطابة.
هنالك جانب آخر من جوانب استجابة الجمهور، فمن المعتقد والشائع أن الجمهور يخضع لتأثير التقنيات التي سبق وصفها، ولكن الحقيقة أنه يخضع أيضا للجوّ العام والتصورات المسبقة التي يحملها عن الشاعر. وفي هذا الصدد يتأثر بطريقة تقديم الشاعر لنفسه، وبالأقاويل والإشاعات التي تحيط بالشاعر كشخص. ولهذا كثيرا ما يلجأ عدد من الشعراء الى تقديم أنفسهم تقديماً خاصاً، فهم يهتمون كثيرا بطريقة دعوتهم الى المنبر: هل يدعون مع مجموعة من الشعراء أم وحدهم؟ هل يوضعون في المقدمة وتحت الضوء أم يوضعون بمساواة تامة مع الآخرين؟ وهل يمارسون الاختلاط بالجمهور أم لا يشاهدهم الجمهور إلا على المنبر؟ بل ويصل الأمر ببعضهم إلى حد الاهتمام بمساقط  الإضاءة ومكان وقوفه ولون الستارة الخلفية التي يظهر على أرضيتها. كل هذه الاشياء تؤثر في الجمهور. وقد أحسن عدد من الشعراء إدراك هذه التقنيات وبرع في وضعها كشروط لظهوره. فهم لا يختلطون بالجمهور في حياتهم الخاصة  ولا بالشعراء، بل بفئةٍ مختارة بعيدا عن أنظار الجمهور أيضا. ومن الأفضل أن ينعزل هذا النوع عن أنظار الجمهور، وعن الاجتماعات العامة، فلا يحضر كمستمع أبدا، ولا يجلس في ردهة فندق،   ولا يسير في شارع معروف. إنه الكائن الذي يساوي بين الحياة العامة والابتذال، وبين الجلوس مستمعا لآخرين والمهانة الشخصية. وحتى تتكامل هذه الهالة التي يحيط بها الشاعر نفسه، أو صناعة أسطورته، لابدّ من جعل غيابه حاضراً. ولذا لا بد من اختراع السير الشخصية الأسطورية، وترتيب شيء من الأقاويل الخارقة التي يتكفل المريدون أو الصحافيون بإشاعتها بين الناس. وتنسجم هذه الأساطير مع وضعية الجمهور الذي يكتب بلغته أو اللغة التي يترجم إليها. وأكثر الأساطير شيوعا في الأوساط العربية هي أساطير المعتقلات والسجون والتشرد والتمرد أو منع هذه السلطة أو تلك لمجموعاته الشعرية، تليها بعد ذلك أسطورة العشق البدوية بشتى صورها العذرية وغير العذرية، وقد شهدتُ جمهورا صحراويا يضج بالتصفيق حين أخبره شاعر أنه عشق مائة ألف امرأة.
في الأسطورة الأولى يحيط الشاعر نفسه بهالة الشهيد والمضطهد، وتبلغ هذه الأسطورة من السطوة على الأذهان حد أن المولهين والمعجبين يكذبون أعينهم وبقية حواسهم وهم يشاهدون شاعرهم يتقلب منعما في أحضان أصحاب الملايين. وفي الثانية يحيط الشاعر نفسه بهالة مجنون ليلى العامرية. ويعزّز الشاعرُ هذه الصور في شعره حتى يتحول هذا الى همّه الشعري الأول: فهو الشهيد الأول والأخير وهو العاشق المجنون منذ الأزل.
ويتأثر الجمهور برغبة الدفاع عن الذات أيضا حين تلقى القصائد. ونعني بذلك أن الغالبية العظمى من الجمهور ترفع يديها وتصفق لا لسببٍ سوى خشية اتهامها بأنها تجهل فن الشعر الذي يُلقى على مسامعها، أو أنها لا تحسن التذوق في وقت تزعم فيه المعرفة والذوق بدليل تواجدها في القاعة.
وقد جربت شخصياً استثارة هذا الخوف لدى جمهور إحدى جلسات الشعر.  فقبل أن يقترب شاعر من المنبر بدأت بالتصفيق، فتحركت الأكف لتصفق،   ولم يكن هناك بالطبع سبب يدعو للتصفيق. فالتصفيق يأتي عادة حينما يُعلن اسم الشاعر، أما وهو في طريقه الى المنبر، فلا أعتقد أن هناك سبباً معقولا دعا الجمهور الى التصفيق إلا  الاستجابة ليدي، وخشيته من أن يظهر في مظهر من لايعرف أهمية الشاعر المتحرك أمامه. وهل هناك من يصفق لغير المهمين؟
كّررتُ هذه التجربة مرة ثانية حين صعد شاعر آخر، وجاءت النتيجة مثل الأولى. وفي مرة ثالثة جرّبت التصفيق لشاعر كندي الجنسية ألقى قصيدة بالانجليزية أثناء الإلقاء. وصفق الجمهور. وكانت المرة الأولى والاخيرة اثناء القاء القصيدة بالانجليزية، أما حين تليت الترجمة العربية للقصيدة فقد صفق الجمهور مراراً، مما يدل على أنه في البداية لم يكن يعرف لماذا يصفق اللهم الا لأنني دعوته الى ذلك.
إن دفاع الجمهور عن نفسه بهذه الطريقة تجعل من السهل استثارته للتصفيق من دون أن يعرف لماذا، وذلك لأن استجابته في الحقيقة تكون هنا استجابة للخوف اللاواعي من الاتهام بعدم الفهم، وقلة الذوق، وهي تهمة مسلّطة على الجمهور بكثافة تجعله ينساق الى نفيها، والتصفيق، ولو للاشيء إذا صفق مصفق، وتذهب إلى الجلسات الشعرية إذا قيل إن نجمها أسطورة من الأساطير. فإذا كانت عملية تلقي الشعر من على منبر على هذه الدرجة الكبيرة من التعقيد والتراكب، واذا كان نصيب ما هو غير شعري كبيراً في تقرير مصائر الشعر والشعراء، هل يبقى اذن ثمة مبّرر للقول إن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، وإن الجيد جيد مهما كان المكان والزمان؟
يبدو لنا أن هناك نوعين من الكتابة الشعرية: الأولى يمكن تسميتها بالكتابة الشعرية، والثانية بالكتابة الخطابية. ويمكن أن تستعير الأولى بعض تقنيات الثانية، ولكن العكس لا يحدث. وفي المقابل هنالك الجمهور المتحضر الذي يحسن الإصغاء ولا يقاطع الشعر بالتصفيق، وهنالك الجمهور الذي يخضع لنشاط الجهاز الحركي. وجمهورنا هو من النوع الثاني بامتياز، صبره قليل وحاسته مبرمجة على أساس التقنية الخطابية، مثل تعدد الذرى في القصيدة الواحدة “الدورات”، والاستجابة “للنحن” المنخذلة أو “النحن” المتفوقة من دون شعور بالتناقض، وخضوعه للأساطير المسبقة التي يعدها بعناية خبراء التسويق، وشعوره بالحاجة الى إثبات انه يعرف ويفهم ولو بالتصفيق للاشيء.
ومثل هذا الجمهور المبرج وقصيدته يؤثر تأثيراً بالغاً في معظم الشعراء الحديثين الى درجة الوقوف على أصابعهم حين يكتبون أو ينشدون.
لا علاقة لكل هذا بالطبع بتقنية الإلقاء، فهذه فن قائم بذاته يستطيع أن يضيف إلى الكتابة الشعرية ما ليس فيها، أو يعزز ما فيها تعزيزاً كبيراً. ومن هنا فإن الربط بين النزعة الخطابية، وتقنية الإلقاء لامبرر له. فالأولى سمة بنيوية في النص الخطابي والثانية سمة مضافة بالصوت، وطريقة التعامل مع وحدات الزمن، ورجّ المسافة بين المنبر والجمهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى