صفحات سورية

مآل دولة الرعاية في ظل السياقات ‘النيوليبرالية’

null
ريتا فرج
يُمثل السوق عاملاً أساسياً في الاقتصاد الرأسمالي المعاصر نظراً لشموليته وتنوع مؤسساته وارتباطه بالمنظمات الدولية المعنية بصناعة القرار السياسي. وفي سبيل تحديد حركية اقتصاد السوق وأهميته وُضعت نظريات مختلفة منذ بدايات القرن العشرين، أسست بدورها لوضعية اقتصادية قائمة على ركيزتين: أولهما، وضعية المنافسة؛ وثانيتهما وضعية الإحتكار. تاريخياً عالجت الأدبيات الاقتصادية السياسية مفهوم السوق كحقل تبادلي وركيزة من بين الركائز الناظمة للواقع الاقتصادي، إلا أن المتغيرات والتطور التصاعدي للرأسمالية جعلته القاعدة الأساسية المحركة لاقتصادات الدول الكبرى .
إن التحولات التي شهدتها الرأسمالية أسست لما يُسمى بالنيوليبرالية، وهي مدرسة اقتصادية نشأت في سبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة وترتكز على الحماية القصوى للملكية الخاصة ورفض تدخل الدولة في التخطيط أو توجيه الاقتصاد. وتقوم النيوليبرالية على حماية حقوق رأس المال والشركات الكبرى متعددة الجنسية، وذلك من خلال إعطاء الحركة المطلقة للأسواق العالمية على حساب مؤسسات الدولة؛ فالنيوليبرالية تهدف الى تقليص الخدمات التي توفرها الحكومات لشعوبها وإلغاء الضوابط التي تحددها هذه الحكومات لحماية اقتصادها الداخلي وحقوق مواطنيها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك في ظل الحديث عن الخصخصة وتخفيض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.
في قراءته للاقتصاد العالمي الجديد القائم على تأليه السوق يرى الدكتور برهان غليون أن ‘النيوليبرالية لا تكتفي بالتأكيد على ضرورة التراجع عن تدخل الدولة المباشر والواسع في النشاطات الاقتصادية والإنتاجية بما في ذلك قطاع الخدمات العامة وإخضاعها جميعاً لقاعدة المنافسة وقانون العرض والطلب، بل هي تسعى أكثر من ذلك الى تجاوز نظام السوق الرأسمالية القومية أو الوطنية الذي ساد في المراحل السابقة، وما يعنيه من ممارسة الدولة حقها في السيادة الاقتصادية ووضع التعريفات الجمركية الحمائية. وفي السياسة تعني النيوليبرالية التخلص من دولة الرعاية والنظر الى الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية المختلفة التي وفرتها هذه الدولة في السابق على أنها معوِّقة للمجتمع الحر لأنها تقيّد اختيارات أفراده، مثلما هي معوِّقة للتقدم الاقتصادي بقدر ما تفرض إكراهاً وكوابح على سوق التداول الحر للسلع والخدمات والمهارات’.
وفقاً للقراءة التي تقدم بها برهان غليون ما هي القواعد التي إنبنت عليها النيوليبرالية؟ تنطلق النيو ليبرالية من خمس قواعد أساسية: أولاً: السوق وذلك عبر تحرير المؤسسة أو الشركة من القيود التي تفرضها الدولة بصرف النظر عن مدى الضرر الذي من الممكن أن تسببه على الصعيد الاجتماعي، فالإنفتاح على التجارة العالمية والإستثمارات الدولية يمهد الطريق أمام تجريد العمال من حقوقهم وتخفيض أجورهم، ويؤدي بالضرورة الى إنفلاش الأسعار أي غياب القيود والضوابط التي تتحكم بارتفاعها.
ثانياً: تخفيض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية. ثالثاً: إزالة التنظيم أي تخفيض التنظيم الحكومي لأي شيء يمكنه أن يخفض الأرباح.
رابعاً: الخصخصة وتهدف الى بيع الشركات والبضائع والخدمات المملوكة للدولة الى مستثمرين خاصين.
خامساً: إلغاء مفهوم الصالح العام واستبداله بالمسؤولية الفردية أي إحالة غياب الرعاية الاجتماعية الى الفرد بحد ذاته كونه لم يعمل على تطوير أو تحسين مستواه المعيشي، بمعنى آخر تقديس الفردانية الاقتصادية وجعل السوق المحرك الأساسي للأفراد والاقتصاد المحلي وبالتالي العالمي.
لا شك أن النظام الاقتصادي العالمي الراهن الذي يجعل من النيوليبرالية منطلقاً له والمدعوم أساساً من قبل المؤسسات المالية القوية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سيمهد الطريق أمام مزيد من التنافس بين الشركات العملاقة التي ستتحكم باقتصاد الدول خاصةً تلك الدول التي تعاني من الاضطراب السياسي والاجتماعي نتيجة غياب الدور الإنمائي للحكومات وتحديداً حكومات العالم الثالث.
من هنا فإن الرؤية النيو ليبرالية المنطلقة من التنافس الحاد لاقتصاد السوق ستقلص من دور الدولة كمؤسسة رعائية وانمائية ، وستجعل تحرير اقتصاد السوق من كل القيود غايتها القصوى. إزاء ذلك هل يمكن الحديث عن بداية نهاية دولة الرعاية خاصة في دول العالم الثالث؟ والى أي مدى تمهد النيوليبرالية للقضاء على سيادة الدولة الاقتصادية والسياسية؟ وأخيراً هل يمكن الحديث عن أفول سلطة الدولة بسبب النظام الاقتصادي النيوليبرالي؟ تتجه معظم حكومات العالم الثالث الى الانخراط في رأسمالية السوق على حساب المشروعات الاقتصادية الداخلية مبررةً هذا التوجه بالانفتاح على الاسواق العالمية، الأمر الذي انعكس على دورها في تأمين الحد الأدنى من متطلبات شعوبها؛ ويمكن رصد مؤثرات النيوليبرالية على هذه دول عبر جملة من المؤشرات الاقتصادية أهمها: ارتفاع معدلات البطالة، عدم وجود معدلات شديدة الارتفاع للإدخار، تسهيل عملية الخصخصة، دعم حرية السوق، ازدياد التضخم، إحلال الواردات على حساب الصادرات. الى ذلك أسفرت سياسات الدولية النيوليبرالية الى استعمال السوق كأداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية، وإتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالاً للاصطفاء بالمعنى الدارويني للكلمة. لقد كرست الايديولوجيا النيوليبرالية حرية السوق المطلقة العابرة للقوميات والقارات، وكنتيجة لذلك تعرضت اقتصادات العالم الثالث للعديد من الانتكاسات الاقتصادية بسبب الانفتاح غير المدروس على الاستثمارات الاجنبية.
إن تحجيم دور الدولة وتقليص تدخلها في الشأن الاقتصادي لا سيما في دول العالم الثالث أدى الى زيادة موارد القطاع الخاص والى تزايد العجز في الموازنة العامة للدولة، أما في ما يتعلق بالخصخصة فقد نجم عن ذلك إعادة توزيع الثروة القومية لصالح أصحاب رأس المال. صفوة القول إن المشاكل الاقتصادية العالمية تعود بالدرجة الاولى الى عجز الرأسمالية عن إيجاد الحلول لأزماتها على الصعيد النظري والتطبيقي، وما النيوليبرالية إلاّ أحد تجلياتها الاكثر تطرفا.
كاتبة من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى