زهو الشامتين
بلال خبيز
لو خرج ميشال كيلو من السجن اليوم، هل سيجد كلاماً يقوله؟ لو خرج ميشال كيلو اليوم هل يستطيع أن يتقن غير الصمت والخيبة؟ الأرجح أنه لا.
رفضت محكمة سورية طلب تخلية سبيل ميشال كيلو بعد انتهاء ثلاثة أرباع مدة محكوميته. ميشال كيلو حوكم لأنه أضعف الشعور القومي بكتاباته، ووقع بيان بيروت-دمشق، الذي سيق عدد من المعارضين السوريين إلى السجن بسببه. اليوم لم يعد الإعلان نفسه ذا حيثية وموضوع. ولم يعد العالم العربي يعيش في اللحظة الانتقالية نفسها التي كان يعيشها منذ ثلاث سنوات خلت. يومذاك كانت قرقعة جرافات الهجوم الدولي على سورية وإيران تجرف أمامها كل شيء، وكان الهجوم على الدور السوري والنظام في حد ذاته بالغ الحدة والوضوح، مما جعل الكثيرين، في النظام وخارجه يستشعرون خطراً متزايداً على مصير سورية نفسها. على أي حال ترك هذا الهجوم خلفه ضحايا كثيرين. بعضهم كان ضحية الظن بأن الهجوم الدولي لن يتوقف لأي سبب من الأسباب، وبعضهم ذهب ضحية الاعتقاد بأن الأوان قد آن في سورية لإعادة بناء الاجتماع الذي دمره النظام من خلال هجومات ممنهجة أدت في ما أدت إليه إلى موت الاجتماع سريرياً. وبعضهم، ومنهم ميشال كيلو، ذهب ضحية تعثر المشروع الأميركي في المنطقة يومذاك. في ذلك الوقت كان العراق يمثل مستنقعاً، على ما درج في أدبيات الممانعة العربية، للسياسة الأميركية. وكان المصير العراقي ماثلاً للجميع في سورية ولبنان وإيران وحتى مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. مما جعل أشخاصاً مثل ميشال كيلو يطالبون النظام السوري بجرأة وإلحاح ببعض التغييرات في السياسة الداخلية، لتمتين الاجتماع السوري وتصليبه من أجل تجنب المصير العراقي الأسود وإنجاح المواجهة.
اليوم، بعد مضي ثلاث سنوات على الخروج السوري من لبنان تحت ضغط الهجوم التدويلي يبدو المشهد في العراق مختلفاً عما كان عليه من قبل، فضلاً عن أن الاختلاف الكبير بين نظام سوري معزول ومحاصر يومذاك، ونظام يشعر اليوم أنه على درجة من الأهمية توازي أهمية روسيا، ولا يخجل من المطالبة بحقه في التدخل في شؤون جيرانه حفاظاً على مصالحه الحيوية.
لو خرج ميشال كيلو اليوم، هل سيجد كلاماً يقوله؟ لو خرج ميشال كيلو اليوم هل يستطيع أن يتقن غير الصمت والخيبة؟ الأرجح أنه لا. مع ذلك ثمة إصرار على إبقائة سجيناً. ذلك أن النظام المنتصر اليوم يشعر بالحاجة أكثر إلى تأديب الذين تجرؤوا على مساءلته عن سياساته المغامرة، أو المقامرة كما يحلو للبعض التسمية.
اليوم يختلف المشهد كثيراً عنه بالأمس. العراق يغذّ السير حثيثاً للخروج من محنته، وهو يبدو اليوم البلد الوحيد في المنطقة الذي يستطيع أن يعد نفسه بمستقبل مشرق. أنجز حروبه كلها مسبقاً، وهو اليوم يستعد لمواجهة المستقبل من دون عقد أو تشنجات… هذا البلد الذي لطالما استند النظام السوري إلى أوضاعه المتردية في تبرير ممانعته وجدواها، بحجة أن العراق مستنقع لأميركا وقواتها المسلحة، وأن من يستطيع تغذية هذا المستنقع بالوحل والطين ليس سوى النظام السوري نفسه وبعض حلفائه في المنطقة. والحال، تبدو حجة النظام في الممانعة آيلة إلى السقوط النهائي، بل تذهب سورية إلى مفاوضات مع إسرائيل برعاية تركية، وليس في الأمر تفريط من أي نوع، وهي تستعد اليوم للعودة إلى لبنان من بوابته الشمالية.
كان حري بنظام يشعر بالزهو إلى هذا الحد أن يقبل بعض التسامح مع من شعروا ذات يوم بضرورة السعي إلى تمتين الصمود السوري بإشاعة بعض القيم والممارسات الديمقراطية في سورية، لكن النظام لم ينتصر في ما يبدو رغم كل الغشاوة الزاهية التي تظلل تصريحات مسؤوليه. فقط ثمة نجاح في جعل الخصم يأخذ وقته في الاستعداد للحرب المقبلة التي يعرف الخصم والصديق أنها باتت حرباً جحيمية لا أفق مرئياً لقاعها، لكنها حرب ستحصل من دون شك.
أما الحديث عن امتناعها بسبب ارتفاع كلفتها فهو حديث يجبّه تاريخ العالم نفسه، ذلك أن الحربين العالميتين الأولى والثانية قامتا أساساً على وهم من هذا النوع، أدى إلى سباق تسلح لا مثيل له، ولم تمنع يومها كلفة الحرب الهائلة أي طرف من الأطراف من دخول غمارها المرعبة. يومذاك، حين فضلت فرنسا الحياة تحت الاحتلال على المقاومة والموت، خسرت روحها، ولم تلبث أن اجتهدت بكل قواها لتنتسب إلى الحرب مجدداً.
لم يربح النظام، لكن ميشال كيلو خسر بكل تأكيد، ذلك أن ما كان يطالب به ليس أقل من تجنب الحرب التي كانت ماثلة في الأفق يومذاك، اليوم ثمة حرب تمثل أمامنا تبدو معها تلك الحرب التي خشي ميشال كيلو منها أشبه بلعب الأطفال.
كاتب لبناني
الجريدة