ما يحدث في لبنان

إنه مأزق الجميع !

null

نهلة الشهال

نجح خصوم حزب الله – وهم كُثر – في دفعه إلى ارتكاب ما كان حتماً لا يريده ولا مصلحة له فيه: الاصطدام «الجسدي» بقوى لبنانية، مع ما يعنيه ذلك من تبادل إراقة الدماء، ومن أحقاد عنيدة. نجحوا لأنهم سدّوا كل منافذ التعامل مع الاستعصاء السياسي القائم في البلد بغير العنف، ووُضع حزب الله أمام معادلة أن يلغي نفسه بنفسه وينكمش إلى أقصى حدود ممكنة، وإلاّ يكون موضوعياً – بحكم الحجم وقوة التنظيم والسلاح والاختلاف السياسي – في موقع من يمارس الهيمنة. وقد تمكن في السنتين الماضيتين على الأقل، أو منذ إعلان الاعتصام في الوسط التجاري، من المراوغة والتملص من المأزق، معتمداً سلوكاً بدا غامضا في عيون أنصاره ومثيراً لحنق بعض حلفائه. ولا يخفى على المتابعين أنه كان من بين هؤلاء الحلفاء من نظّر للدخول «السلمي» إلى السراي الحكومي لنقل الاعتصام إليها عقب مجابهة استقالة وزراء المعارضة بالاستخفاف والتجاهل… فتصدى حزب الله للفكرة رافضاً إياها لما تعنيه من شبهة «الانقلاب»، أياً كان الإخراج. وهو تصدى أيضا لفكرة شائعة جداً في الوسط الشعبي الهائل الذي يحيا ضمنه، والتي تقول إن حصة هذا الوسط أدنى مما ينبغي، بالنظر إلى الديموغرافيا، والحضور الاقتصادي والثقافي، وما يرونه كمنجز وطني استثنائي، أي التصدي المديد لإسرائيل وهزيمتها مرتين، ثم المظلومية السابقة والتي تستدعي التعويض، علاوة على امتلاك عناصر القوة والـ…غلبة. فلماذا إذاً لا تطابق الحصة هذا الواقع؟

ولم تقابل أيا من خطوات حزب الله السياسية إلا بقرع الطبول. فحين عارض فكرة الزج بالجيش في آتون مواجهة مع الفلسطينيين، في مثل هذه الأيام من العام الماضي، واستخدم السيد حسن نصر الله جملته الشهيرة بأن «الجيش والمخيمات الفلسطينية، كلاهما خط أحمر»، خرجت الأصوات المقابلة تزايد، نكاية، في محبة الجيش وذم الفلسطينيين، علماً انه لم يكن لحزب الله «مصلحة» مباشرة – بالمعنى المبتذل للكلمة، أو بمعناها البدائي- في الموضوع برمته. فالبيئة الاجتماعية والسياسية التي كان يقاتلها الجيش، سواء في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في نهر البارد أو في أحياء طرابلس المختلفة، سنية وسلفية. وبصدامهما يتخلص حزب الله من طرفين مزعجين «موضوعياً» له، ويمكن أن يكونا مؤذيين أيضاً، لو هو اتّبع حسابات كيفية توفير شروط الغلبة لنفسه. وهو استطراداً الحساب السخيف الذي أجرته مثلاً القوى السياسية المتواجدة في محافظة نينوى في العراق، وعاصمتها الحاضرة السنية الكبرى في البلاد، الموصل، حين وقفتْ تتفرج على الصدام بين القوات الحكومية التابعة للسيد المالكي وجيش المهدي التابع للحركة الصدرية، مرددة بشماتة المثل اللبناني «فخّار يطبش بعضه»، ومعناها بالفصحى «كيدهم بينهم»، معتبرة أن الأمر لا يعنيها، إلى أن وصلت إليها صولات الحكومة اليوم وبدأت بالعويل.

لقد عومل حزب الله بصورة متواصلة كجسم «براني»، بل وبما يقال له Paria ، وكان اقرب إلى أفهام الآخرين ومزاجهم تنظيم مثل حركة أمل، يقوم على الأسس والسلوكيات نفسها التي يقومون هم عليها، وقد اعتبروا تحالفه مع حزب الله استتباعاً ليس إلا. وليس أدل على هذا الشعور من ركائز الدعاية التي صاحبت الأيام العشرة السود الماضية، والقائمة على فكرة «غزوة» حلت ببيروت، وأن شبان حزب الله وفدوا إليها من الخارج، أي من الجنوب!! ولم ينفع بإزاء ذلك قول جماعة حزب الله إن بيروت مدينتهم بمقدار ما هي مدينة الآخرين. وللتذكير فلا السيد الحريري «بيروتي» ولا رئيس الوزراء كذلك. أما في طرابلس، فالأمر مختلف، وقد شعرتْ ما يُفترض انه العاصمة الثانية، (بينما هي في حالة مديدة من التهميش والإهمال والبؤس فائق الوصف) أن ساعة حظها قد حانت، وأنها يمكن أن تصبح عاصمة السنّة! فبيروت مختلة توازن القوى، إن لم يكن لشيء فلوجود الضاحية الجنوبية في ملاصقتها، ولوجود أحياء شيعية كبيرة داخل أسوارها، وصيدا تقع داخل بحر شيعي، ثم أن حساسيتها عالية حيال معطيات أخرى، كالمسألة الفلسطينية وموضوع إسرائيل، وقياداتها السنية من غير آل الحريري – أسامة سعد ورئيس البلدية السيد البزري والشيخ ماهر حمود… وكلهم أصحاب وزن- تنتمي إلى المعارضة. وهكذا خرجت في طرابلس أصوات تنظّر لاستعادة خط النار التقليدي الفاصل بين منطقتي باب التبانة، الخزان الشعبي لوافدي الأرياف من المعدمين، وهم طائفياً من السنة، وبعل محسن العلوية الانتماء الطائفي… وراحت تلك الأصوات نفسها تبرر ما يقال من انخراط بعض المجموعات النشطة في المدينة في تنظيم القاعدة – وهو تقدير يستند إلى أحداث شهيرة، كواقعة الضنية عام 2000، ثم تنظيم فتح الإسلام في الصيف الماضي- معتبرة إياه وسيلة للدفاع عن النفس بوجه المد الشيعي.

وإن لم نتجاوز هذا التوصيف للخريطة البشرية، وتركنا جانباً معضلة تشظّي التمثيل المسيحي، ومعضلة الموقع الدرزي من ذلك كله، علاوة على كتل بشرية أخرى لا علاقة عضوية لها بالاستقطاب السياسي/الطائفي القائم (وأحزاب عريقة، كالحزب الشيوعي وبيئة اليسار ذات الرسوخ في لبنان، وأفراد مميزين أيضاً، كتاباً وفنانين واقتصاديين وقانونيين…)، إن اكتفينا، فماذا نجد؟

نجد أولاً أن تحفيز الاستقطاب الطائفي عملية غير مربحة لأي جهة، لأنه لا توجد مناطق طوائفية صافية في لبنان – ربما عدا جيوب قليلة – ولأن الانتماء السياسي لزعماء يستندون إلى قاعدة تمثيلية طائفية جلية إلى هذا الحد أو ذاك، متوزع تماما على ضفتي الانشطار العمودي القائم. ويعني ذلك أن الحرب الأهلية ستدمر الجميع، ولا منتصر محتملاً فيها، ولو كان حزب الله شديد التنظيم والكفاءة العسكرية ومدعوماً من سورية وإيران معاً، ولو جيّش ممثلو السنة كل فروع القاعدة وشبيهاتها «للجهاد»، أو استدعى السادة السنيورة أو جعجع الأسطول السادس الأميركي برمته. ومن يشاء يعتبر مما يجري في العراق، وإن عميت البصائر.

وأن حل المسائل الأصلية، كما يقول السيد جعجع بإلحاح عصبي، ليس في متناول اللبنانيين اليوم، فلا احد بمقدوره أن يتصدى لسلاح حزب الله، كما لأسلحة سائر الميليشيات وارتباطاتها الخارجية، الناشئة أو المستعادة. وان تعايشاً بين تلك «الوقائع» ممكن فقط على قاعدة اتفاق سياسي يجمد حركة الجميع باتجاه حدودها الدنيا، بانتظار انفراجات إقليمية غير مستحيلة الحدوث. وفي هذا الجانب، ينتظر من اللبنانيين أن يقيسوا بمهارتهم المعهودة نصيب المحلي من الإقليمي والدولي، وأن يوازنوا بينها من أجل المصلحة الكلية للبنان، وهي هنا بقاؤه على وجه البسيطة… وليس اقل من ذلك.

وأنه بالمقابل، فاستمرار الأزمة السياسية الأصلية لم يعد ممكناً، كما لم يعد ممكناً تجاهل ضرورة إيجاد حلول توافقية لها – وإن كان البحث عنها مضنياً، وإن استدعى وقتاً، ولكن المهم هو البدء الصادق بهذه العملية، وهو وحده ما يبرد أجواء وصل احتقانها حد الانفجار. أما خلا ذلك فطريق سريع مباشر نحو الحرب الأهلية.

وأخيراً من نافل القول أن المهاترات غير لائقة بالمأساة القائمة، ولا مكان لها في وقت حرج كهذا، وان التشاطر الكلامي عقيم، وأنه من غير المهم إثبات انك على صواب وخصمك على خطأ، وأن استمرار هذه الأجواء المرعبة، والتي تعكسها الفضائيات الى حد إثارة الغثيان، إما دليل بدائية نفسية وفكرية تناقض صورة اللبنانيين عن أنفسهم، وإما تحريض على الفتنة… ولا تفسير ثالثاً. وعطفاً على ذلك، وفي نهاية المطاف، فنجاح خصوم حزب الله في دفعه إلى استخدام السلاح ضد لبنانيين، ثم الصراخ «قلنا لكم إن سلاحه خطير»، عملية فاشلة سياسياً تماماً، وإن كان لها نتائج، فهي كارثية على الجميع وليس على حزب الله وحده، كما هو النصر العسكري لحزب الله على خصومه المحليين خسارة سياسية له، على ما يقول خصومه.

وهكذا تتساوى مسؤوليات الجميع، حزب الله كما سواه، وهم كلهم أمام مأزق واحد… مشترك!

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى