صفحات ثقافية

خريطة معرفية مقترحة للمشهد الثقافي السوري

null

فراس النجار

ظلّ التمايز سائداً بين اللغة والفكر، كشيئين مختلفين متباينين، برغم ما يربطهما من وشائج معرفية ونفسية واجتماعية تاريخية. لكن في العقود القليلة الماضية، ومع تراجع تأثير البنيوية وانحسارها، وتعزز الاعتبارات الموضوعية للسياقات التاريخية والاجتماعية والمادية التي تشكل حواضن جدلية للفكر والواقع وصور العلاقة بينهما
ضمن صيرورات متتالية، تضاءلت الهوة بينهما حتى رُدمت أو كادت. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يُعتبر التغيير الطارئ على صعيد اللغة تغييرا حاصلا على صعيد الفكر الذي يرتبط جدلياً بالواقع المتغير أصلاً. الانزياح اللغوي من القضايا الأدبية واللغوية التي تحظى باهتمام كبير. وهو بتبسيط تحوّل دلالة مصطلح ما، الذي هو بالأصل كلمة في معجم لغة ما تقابل موجوداً مادياً أو معنوياً في صورة سيميائية- صوتية، من مدلول إلى آخر، مع بقاء الأول أو هجره إلى الآخر الجديد. وإذا سلمنا بجدلية الفكر والواقع، وبالترابط الوثيق بين اللغة والفكر، إن لم نقل التطابق التام، لزم عنه أن نسلم أيضاً بأن الانزياح اللغوي هو تغيير في الفكر، يقابله تغيير في الواقع الموضوعي.

أدون ما سبق وأنا أستحضر المواقف المعاصرة لكثير من مثقفينا الذين شحنوا أجواء عقدي الخمسينيات والستينيات، بحماس اليفاعة والشباب لتيارات وأيديولوجيات تزخر بالمقولات المصطلحية مثل: التحرر، النضال، الصمود، الثوابت.. بل وحتى الاشتراكية، الوحدة، والقومية والثورة نفسها… الخ. إنهم نفسهم اليوم من أخمد الانزياح تلك الحماسة لديهم، بل ربما الأصح القول أنه صرفها نحو مقولات أخرى، فأصبحت الأولى باعثاً لنفورهم بمجرد طرحها أمامهم، بل حتى لغضبهم واستيائهم. والحق أن العديد من هؤلاء الذي توزعوا في الماضي على تيارات سياسية متباينة ما بين قومية وماركسية ودينية، متدرجة من يمين غير واحد إلى يسار متعدد متصارع أحياناً، دفعوا على مدى السنوات الست الماضية ثمناً باهظاً جداً لمواقفهم هذه. بينما وقف مثقفون آخرون، كانوا في ذلك الماضي رفاقاً لهم، تجمعهم نفس الأحزاب والتيارات، إزاء هؤلاء المتحولين موقف قاضي الإدانة، وأحكامهم تراوحت بين التطبيع والترويج للعولمة بل وحتى الردة والعمالة. ففي محاضرة بعنوان- أدب الأسواق العاقلة- ومن على منبر إتحاد الكتاب العرب، فاجأ المحاضر الذي ينتمي إلى حزب يأخذ إحداثياته في موقع اليسار المتقدم، بقائمة أحكام طويلة جاء فيها ردة عبد الرزاق عيد وهرطقة رياض الترك الليبرالية وشبهة العولمة والترويج لها عند جلال صادق العظم وعمالة رضوان السيد .. وغير ذلك الكثير من تهم ومتهمين، الذين غرر بهم، بحسب المحاضر، مكتب الخدمات الإستراتيجية الأمريكي الذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عمله الهادف إلى تطويق الشيوعية ثقافياً وفكرياً، من خلال تجنيد المثقفين عبر العالم، وهو المكتب الذي يتابع منذ عقود نشاطه تحت مسمى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A، طبعاً بحسب نفس المصدر.

لدينا الآن فريقان متعارضان من المثقفين يشكلان القسم الفاعل لكن الضئيل من خريطتنا الفكرية ، بينما امتد القسم الخامل على معظمها محملاً بفريق ثالث اعتزل السجال بل ربما كل فعاليات الفكر، بشكل يستحضر في الذهن بعض فرق الإرجاء التي ظهرت في القرون الأولى من التاريخ العربي الإسلامي، مع اعتبار الفرق من أن المرجئين الجدد انسحبوا إلى موقعهم الخامل بتأثير عوامل من الإحباط واليأس وانهيار الأحلام، فوجدوا أنفسهم بين عامة الناس، ما لديهم لا يزيد عن المشاعر السلبية والرؤى السوداوية..

في الجانب الفاعل ينطلق الفريق الأول، الذين نسميهم بالمتحولين، عملياً وأحياناً ذهنياً واعياً، من أسطورة يمكن صياغتها في مقدمتين ونتيجة على شكل القياس الأرسطي التالي:

الواقع متغير./ الفكر مرتبط بالواقع./ الفكر إذن متغير./.

ونشدد على أن ما نعنيه بالأسطورة في سياقنا الحالي هو الافتراضات المعرفية التي قد تأخذ شكل المسلمات دون أن تبلغ مرتبة البديهيات، فهي بالتالي ضرورية لازمة لأي بناء فكري، وهي في الوقت نفسه مما ينتمي إلى ميتافيزيقيا الفكر وتتعثر عند تخومه قدرات البرهان.

أما الفريق الثاني، الذين نسميهم بالقضاة، ينطلقون عملياً من الأسطورة التي يمكن صياغتها على شكل القياس التالي: الذات يتهددها الواقع بالزوال./ الفكر أخص مضامين الذات./ الفكر هو ثوابت وثبات./.

أما في القسم الأعظم من الخريطة، والخامل في نفس الوقت، حيث يتقوقع الفريق الثالث من المثقفين المنسحبين، الذين نسميهم بالمرجئين، يسود الافتراض المعرفي، عملياً وحتى نظرياً ممنهجاً، على أساس الأسطورة التالية:

الواقع متعذّر تغييره./ الفكر وسيلة تعاملنا الوحيدة مع الواقع./ الفكر عاجز./.

قد يُؤخذ على الخريطة المقترحة نقص مريع، مرده تغييب آخرين كالإسلاميين الراديكاليين. ولذلك نؤكد أنها خريطة إبستمولوجية معرفية للمشهد الثقافي السياسي الراهن في سوريا، غير معنية بالتنويعات والتمايزات الأيديولوجية التي لا يلزمنا بسطها في هذا المقام وإنما يلزمنا تحري موقعها المعرفي. لكن القارئ سيجد أن الفريق المذكور كغيره حاضر غير غائب، تجمعه خلفيته المعرفية مع أحد الفرقاء الثلاثة، برغم الخلاف الأيديولوجي البالغ حدّ العداء التاريخي.

نقطة الانطلاق عند المتحولين هي الواقع- العنصر المؤثر الأول. وبرغم حضور الفكر عند المتحولين كعنصر متأثر مؤثر، تبقى الذات غائبة، أو لنقل ذاتاً غير ناجزة بدلالة الفكر المتغيّر، لتتشكل من حدّين معادلةُ حركة التحوّل في ظروف الحاضر: الواقع الفكر. مع أمل الوصول إلى انقلاب حدّيها في المستقبل لتصبح: الفكر الواقع.

إن حصول المعادلة الأخيرة، إن تمّ، سيعني تحقق الذات- الهوية. فهل هذا هدفٌ يحلّ محل الأيديولوجيا الغائبة- المهجورة- أو شبه الغائبة- شبه المهجورة- عند المتحولين؟.

بينما نقطة البداية هي الذات ( الذات الجمعية) عند القضاة، العنصر المؤثر برغم التهديد من قبل الواقع الذي يشكل الحدّ الضعيف في خطابهم. والذات، الناجزة هنا الناشدة للثبات، تنقل ثوابت البقاء إلى الفكر المجابه للواقع، لتصبح الحركة في معادلة الثبات على الشكل التالي: الذات المهدَّدة الفكر الثابت الواقع.

أما المرجئون، وهم القطاع الأكبر من المثقفين، الذين يتوزعون على السواد الأعظم من الخريطة مع عامة الناس، فيقوم الواقع عندهم حدّاً مؤثراً، في حين ينكفئ الفكر كحدّ خامل سلبي. ومن المنطقي أن تكون أطروحات هذا الفريق المتباينة عن الذات والتغيير غير ذات قيمة، طالما بقيت الحركة لديهم على الشكل التالي: الواقع الفكر الواقع.

وحتى لا يبقى طرحنا في إطار البنيوي الجامد، يتوجب علينا وضع الفرقاء الثلاثة في سياق حركة الزمن، وهو ما نبغي منه تأمين التفسير التاريخي، الاجتماعي السياسي، لخريطة الاصطفاف المعرفي الراهنة.

كان المشهد في حقبة الخمسينات والستينات مختلفاً تماماً. على سطح الغليان العام برز الفرقاء الثلاثة كطلائع ثقافية تتمايز على أساس المشروع الذي تحمله كل منها، وهو المشروع الذي سيتحكم في منطلقات واستراتيجيات كل منها. وبعبارة جامعة نقول أن الأيديولوجي كان مهيمناً بشدة على حساب المعرفي. كان الجو العالمي مشبع حتى الثمالة بروح حماسة التحرر والتقدم إلى حدّ الهوس، لدرجة أن صار ينبغي على أنبياء تلك الحقبة أن يكونوا رجالاً على شاكلة تشي غيفارا، وفي ذلك دلالة كافية على طبيعة روح تلك الفترة. لكن في الوقت نفسه لم تسمح الطبيعة الطوباوية المشحونة بالعاطفة الثورية التي تميزت بها المشاريع لتلك الطلائع بممارسة أي نقد ذاتي حقيقي لها، ولا بقراءة الواقع الموضوعي في العمق بقصد استقراء المستقبل القريب الوشيك. بل الأخطر أنها انهمكت في التأسيس للذات أيديولوجياً، فراوحت في رسمها بين محورين ظاهرين هما الأصالة والحداثة ومحور ثالث أعظم تأثيراً هو الشخصية المرسومة للعدو الرابض على الحدود، فكانت المحصلة مجموعة من الذوات المعتمدة على سرديات تاريخية مقتطعة من سياقاتها الزمانية المكانية، أو المعتمدة على ادعاءات العصرية المستوعبة أو المتجاوزة لإشكالية العلاقة بين الماضي والهوية في الحاضر. ومن خلال فوضى التوفيق والتلفيق تلك كانت نزعة ربط هذا المشروع بصلة بنوة شرعية مع التراث، أو إدماج ذاك بروح العصر الحديث دعماً لادعاءات القدرة على التجاوز بالمجتمع نحو آفاق التقدم، أو ارتباط آخر بشكل يبدو كامتداد عصري للتراث.. وبتأثير من محور شخصية العدو تضخمت تلك الذوات بهالات انفعالية هائلة تزخر بمقولات الصمود، الثورة، النضال، الوحدة، التحرر، العدالة، التقدم… وغيرها الكثير مما كان مشتركاً بين معظم التيارات والقوى السياسية الحزبية. فهل كانت طبيعة المرحلة تقتضي مبدأ الصدمة كحل وحيد للعودة إلى الواقع؟.

صحيح أن نكسة الخامس من حزيران 1967م كانت طعنة قاتلة لأكثر الأحلام، لكنها أيضاً كانت الصفعة الحادة الكافية لأن يلتفت كثير من المثقفين بوجوههم نحو الداخل، فيشرعون بقراءة ما وراء التغييرات الاجتماعية والسياسية التي أخذت تترتب تدريجياً في المجتمع منذ الخمسينيات، حتى انتهت إلى صورة إقصاء النخبة السياسية المدينية الحاكمة من قِبَل نخبة ريفية عسكرية هيمنت على مقاليد السلطة بانقلابات بيضاء وحمراء..

يقولون إن مذهب العسكري يشبه حذاءه الخشن الذي لا يعنيه سوى المضي قدماً إلى الأمام، دون أن يعبأ بالغاية أو بما يدوسه في طريقه زهراً كان أم صخراً..

كانت النكسة بداية الانزياح. إذ وجد العسكريون أنفسهم أمام تلك المشاريع كمن يقف أمام دجاجة تبيض ذهباً. تبنوا الأيديولوجية البعثية بمنطلقاتها من وحدة وحرية واشتراكية، وحوّلوا مقولاتها إلى موجة دعائية حماسية لم تتوقف حتى هذا التاريخ. شيئاً فشيئاً كان الانزياح يتحرك في عالم المفاهيم عند المتحولين. انتبهوا أبان عقد الثمانينيات الرهيب إلى أن النضال لم يكن في الواقع سوى نضال السلطة برموزها ومتنفذيها في سبيل ترويع الناس وتركيعهم بمجازر الجيش العقائدي، وبإرهاب الأجهزة المخابرتية. وفي عقد التسعينيات بدا واضحاً أن المجتمع السوري قد أضحى عدة جماعات من طوائف وأعراق يشدّها جميعاً وثاق الرعوية الخشن، تمسك به سلطة متضخمة فوق الدستور والقانون والمؤسسات التي أُصيبت بالتشوه والشلل. العسكري مهتم بالمضي إلى الأمام، أي الاستمرار، ولا يهتم لشيء آخر إلا إذا كان لازماً لهذا الاستمرار، السلطة العسكرية وجدت ضمانات استمرارها في قواعد لها شكل غنائي غير فكري، قوامها صمود ليس في حقيقته سوى بقاء السلطة في وجه التطور والتقدم، تصد فقط لمؤامرة مزعومة تحطم كاهل السوريين قمعاً وبطشاً مستمرين، وتحرير شعاراتي من غير حرب حقيقية، وبناء اشتراكي يقدم ثراء خيالياً لحفنة من المتنفذين والفاسدين وإفقاراً لعموم السوريين، ومشروع وحدوي أدواته الأجهزة المخابراتية.. وغيرها مما اعتمدته السلطة كسند ثوري يعوّضها عن عوز سند الشرعية الدستورية المفقود. مما عقّد الأمور أكثر هو هبوب رياح العولمة منذ عقد التسعينيات التي حملت بدورها تفكيكاً معرفياً فصم بالتدريج عرى العلاقة بين الثقافي والاجتماعي التي كانت فيما مضى من المسلمات. فالوسائط التعبيرية التقليدية كالأسرة والطبقة والنخبة فقدت القدرة على تحليل وتفسير تلك العلاقة، بعدما أضحت الثقافة مندفعة نحو تجاوز الهويات الاجتماعية. وأبرز مظاهر ذلك شيوع كم هائل من المفاهيم والأفكار والممارسات التي يصعب تصنيفها وإحالتها إلى أصولها. باختصار أدى تسييب المعنى، وهو ظاهرة عالمية، الناجم عن تعليق الدلالة بل بترها بين الدال والمدلول، بما يعنيه ذلك من انعدام المعنى المقابل للفعل الاجتماعي، إلى وضع الثقافات المحلية في موقع الاختبار، وهو ما أدى بدوره إلى توسيع نطاق الانزياح من حيث هو انحراف الدلالة عن مدلولها. في ضوء ما سبق كانت لحظة التفجّر المعرفي عند المتحولين لحظة الكشف عن خواء كافة المشاريع السابق منها والآتي طالما كان الحامل الاجتماعي، الذي يشكل المواطن حجر أساسه، في حالة غياب. اكتشفوا ذلك بمرارة لا تقل عن مرارتهم للممارسات الديماغوجية المغرضة، والتي منها معاداة فكرة المجتمع المدني، أو مماهاتها بشكل تقشعر له الأبدان مع الحياة المدينية أو فكرة المجتمع الأهلي ( لاحظ أن جوهر تلك الممارسات هو محاصرة الدلالة وكسرها لربطها بمدلول آخر).. المتحولون هم من كانوا في السابق ماركسيين وقوميين وبعثيين وإسلاميين، يرجعون بأصولهم الاجتماعية إلى كافة البيئات والطوائف والعرقيات. الواقع المؤثر لديهم هو الواقع الداخلي الذي انتهى إلى تلاشي المواطن- الإنسان. نحّوا الأيديولوجيا لصالح العمل العام. كان منهم من تآزروا لإطلاق مبادرة تأسيس لجان وجمعيات إحياء المجتمع المدني، ومنهم انطلق إعلان دمشق- بيروت وائتلاف إعلان دمشق..

ولا يختلف عنهم رفاق الأمس، القضاة، من حيث تنوع أصولهم الاجتماعية وانتماءاتهم الفكرية- السياسية. لكن الواقع المعتبر لدى هؤلاء هو الواقع الخارجي- الإقليمي والدولي- الذي يختل لغير مصلحة الوطن. لذلك لم يختلف الخطاب المعاصر لدى هؤلاء عن خطابهم القديم إلا بشكل سطحي ضئيل. فالتصدي للاستعمار صار الثبات في وجه القوة الأمريكية المنفلتة وحلفائها من صهاينة وغيرهم، والكفاح المشترك مع الإتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية والقوى التقدمية أصبح تضامناً وتحالفاً مع إيران الثورة وحزب الله، والنضال ضد المخططات الإمبريالية صار صموداً في وجه الهجمة الشرسة للعولمة التي تستهدف الثوابت.. وعلى هذا المنوال يمضي الخطاب. وسواء عن قصد أو غير قصد، يجمع مشهد الاصطفاف الأيديولوجي السياسي فريق القضاة في الصف نفسه مع السلطة. ولا أدلّ على ذلك من أن توصيفاتهم لمواقف وخطاب المتحولين تشبه إلى حدّ بعيد قائمة اتهامات السلطة لهم، كما تشبه حيثيات الأحكام التي تصدرها بحقهم محاكم النظام الصورية.

من حيث الخلفية المعرفية يتساءل المرء عن موقع الإسلام الراديكالي من هؤلاء القضاة. كلاهما يقوم فكره على الثوابت ولو تباينت. كما أن خطاب كل منهما ينطلق من الذات الثابتة نحو الواقع الإقليمي- الدولي، ولا أهمية هنا لاختلاف جهاد هذا عن صمود ذاك، أو الحاكمية الدينية عن العلمانية..

وبينما يتراخى المرجئون، بقدرية غير معلنة، تحت سطوة الواقع الداخلي- الخارجي المتعذر تغييره، ويتوه عموم السوريين في شوارعهم تتقاذفهم هموم وشجون تكاليف الحياة التي صارت ما بعد الصعبة كما تطورت حداثة الغرب إلى ما بعد الحداثة، يستمر انعقاد محاكم جاهزة تحت الطلب بقرارات اتهام وسيناريوهات ومداولات مسبقة وأحكام تتأخر قليلاً لضرورات التمثيل، يُساق إليها مثقفون مارسوا الفعل الثقافي كما يُفترض فيهم أن يفعلوا. تهم بالتآمر على أمن الدولة، إضعاف الشعور الوطني، إثارة النعرات المذهبية، الاتصال بدولة معادية زمن الحرب، طبعاً معادية فلم تعد لنا دولة صديقة سوى إيران ودويلة حزب الله، لكن أية حرب هذه والنظام لم يُنشبها منذ أكثر من خمس وثلاثين عاما ولا يبدو أنه سينشبها أبداً، إلا إذا اتهمت مدينة أو قرية سورية بإحدى التهم السابقة!!.

عندما سُئل مسؤول سوري رفيع عن معنى محاكمة المثقفين وزجهم في السجون، قاطع السائل فوراً بأنهم مجرمون!. لقد صدق. فالثقافة في معجمه، كما في معجم النظام السوري ككل، ليست إلا مرادفاً للإجرام، بل ترتفع إلى أعلى درجاته كلما ازدادت عمقاً وشمولاً.

لعل ما يثير الضحك المرير المتفجر دموعاً هو تلك الرمزية الفجائعية. المحاكم مستمرة في الانعقاد، والزنازين مستمرة في ابتلاع المثقفين، كما السوس مستمر في التهام ما تبقى من روح المجتمع السوري. بينما النظام يتصنّع البهجة، ويجري الاحتفالات بإعلان دمشق عاصمة للثقافة العربية!!! ما الذي اقترفته النبيلة عاصمة الدنيا حتى تتجرع هذا الذل الذي لن يُمحى؟! كيف تكون مدينة ثقيلة جداً في الوجدان والذاكرة العربية والإسلامية وحتى الإنسانية، زنزانة للثقافة؟!

تلكم هي خريطتنا المعرفية التي تؤطر مشهدنا الثقافي، والثقافة هنا بأوسع مفاهيمها من أنساق ومنظومات ذهنية فكرية ومن نماذج للعلاقات الاجتماعية ثم من أنماط الحياة المتعارف عليها. لن يجدي أي استطراد عن إمكانية تنبه القضاة إلى غياب الواقع الداخلي في خطابهم، كما لن ينفع أي حديث عن تفعيل سريع لأغلب المجتمع الخامل، فكل من هذا وذاك لا يصبّ إلا في خانة التمنيات. على أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال انغلاق الخريطة في وجه أي تغيير!.

إن الخبرة التاريخية تشير إلى أن حركة المجتمعات الإنسانية تجري بقوانين قد تجعل من التنبؤ بمصائرها أمراً ممكناً. إنها الحتمية!. نعم! لكنها وبكل صورها، بحسب التاريخ أيضاً، لم تكن مطلقة في يوم من الأيام. وسيبقى العامل غير المتوقع إلى جانب المؤثرات غير المحسوبة إمكانيات محتملة للتغيير. لكن إلى أن يحصل ذلك سنبقى نخطئ عمداً ونحن نقرأ كتاب فرج بيرقدار- خيانات اللغة والصمت، محنتي في سجون المخابرات السورية- سنصرّ على تحريف الكلمة الرابعة بقلب ياء الملكية للمتكلم المفرد إلى نا.. هي محنتنا، محنة مجتمع متأزم لكن عريق.. محنة المجتمع السوري!!…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى