المرض البسيكولوجي السوري!
فلورنس غزلان
لو اقتصر الأمر على النظام وسلوكيته ، لاعتبرنا أن المشكلة أقل حدة والأخطار أخف وطأة، لكن عندما تصل حال المرض واستفحاله إلى الإنسان المواطن، إلى نفسه وعقله وتنعكس سلبا على سلوكيته وتعاطيه مع الحدث وتفاعله مع الحياة اليومية وتأثيرها على مستقبل الوطن والأجيال ككل، وبنيتها وتركيبتها السكانية وعلاقات هذه التركيبة ببعضها ، الذي تظهر عليها آثار التراجع التكتلي ، وغالبا ما تأخذ أبعادا طائفية الطابع ، تكسوها عوامل قوقعة وانكسار وانحسار نحو حلقة انقشعت، وكان عليها أن تنقشع لو أن التطور الطبيعي للمجتمع السوري اتخذ صورة التدرج والتقدم، لا صورة التقهقر والعودة إلى مادون الوطنية …بل الوصول إلى انسداد واستعصاء ينذر بخراب ودمار إنساني ويهدد المستوى الصحي للنفس البشرية وللشخصية السورية بالذات، هذه الشخصية، التي طالما تفاخر بها أهلها وتندر أصحابها وانتفخوا …لحدود أصبحوا حيالها مصابين بالنرجسية المفرطة..
ماراعني إلى حد السخط، وما أثار حفيظتي، أن الحال لم تطل المسئولين من أهل النظام ولغتهم واستخداماتهم اللفظية الخاوية إلا من السفسطة والقدرة على المداورة واللف، البعيدة كل البعد عن الفعل والوضوح والمصداقية مع الواقع والذات، بل وصلت وتفشت أمراض السلطة وتربيتها الخالدة ورسالتها الطليعية وحيدة الوجه والقفا…مُوَحدة الشكل والهيئة…والقيادة طبعا، أن ينتقل المرض ويصيب الورم السرطاني النفسي جل شبابنا…ويصل حتى إلى من نسميهم فنانينا، الذين يناط بهم الدور الهام، حيث يمتلكون الصورة والصوت والكلمة والمسرح والإعلام …ليصلوا إلى بيوت مصابة بالسكتة والصمت المطبق والخرس الدائم، وقد اعتقدنا أنهم ” أي الفنانين” هم صوت المواطن …هم صورته هم كلمته …لكني فوجئت بأحد أقطاب الفن الكبيرة ” لا أريد أن أسميه حرصا على سمعته وجماهيره “ــ وبمحض الصدفة ــ ، فليس من عادتي متابعة حكايا رمضان وقفشاته الإذاعية والتلفزيونية، ولا برامجه المخصصة للصائمين وغير الصائمين،.. والتي من المفترض أن تكون مميزة !…لكن المميز فيها هي تلك المقابلة لفنان نال حب ورضا القلوب على امتداد العالم الناطق بلغة الضاد…فنان مخضرم ومن جيل كهل، ومع هذا فقد أصابته عدوى اللف والدوران…أصابته عدوى انعدام الشفافية والعفوية والبساطة….لم يجب على أي سؤال من الأسئلة المطروحة ..باختصار ، بل بإسهاب ممجوج مقيت…وبنرجسية أقل مايقال فيها ( لاتطاق)…فلم يفلح مُعِد البرنامج الإمساك به ،أو سحب أي اعتراف منه…بمحبته لأي مكان وانتمائه له ولا بتفضيله لشخصية ما وحبه لها على أخرى، وأنها تشكل له تأثيرا معينا في حياته ، أو تربطه بها رابطة مختلفة ميزته عن بقية الروابط…امتطى لغة الخطاب والبحث عن تاريخه الفني ومر بكل بلد غربي وشرقي قدم فيه عروضه الفنية، وتحدث عن كل حفل وعن جماهيره الغفيرة فيه…وعن محبته لأهله…وأنه يحب كل هذه الأمكنة مجتمعة…ولا يفضل حتى مسقط رأسه عليها!!..كما أنه قال: أنه يحب كل الناس…يبدو أن قلبه أكبر من البحر…ولغته تمط أكثر من المطاط نفسه…مع أن المطاط انقطع أثناء حديثه فلم يعد له حيل ولا قوة إزاء التملق الذي أصاب فناننا الكبير…
المدهش في الأمر أني استمعت قبل يوم فقط لفنان مغربي كبير له صوت مميز ومحبب …كان أكثر صدقاً ووضوحاً وبساطة ….فقد أبدى حبه للمسرح الأول الذي غنى فوقه رغم صغره وضآلة حجمه….لم يقل ماقاله مواطننا السوري المحب لكل الأمكنة ولكل الناس!!
هذا الحوار أعادني للكثير من المناقشات التي جرت بيني وبين بعض الشباب السوري الخارج للعالم من قمقم القمع وانعدام الحرية والمتربي على الطلائع والشبيبة والحزب القائد….والذي يريد الخروج من جلده…ويرى الغرب مجرد فرصة للعمل والهروب من الواقع، ولديه الاستعداد لينتقد الأوضاع والنظام فقط عندما يكون خارج سورية، وأمام من هم مثلي!، ثم ينقلب مئة وثمانين درجة عند لقائه أي شخص مقرب من السلطة أو أي سوري يمكنه العودة لسورية، ففي نظره أن هذا الشخص مشروع مُخبِر!، يسميني وأمثالي ب( الانتحاريين)، ولماذا نقذف بأنفسنا في فم الغول؟ وكل ما تقوم به المعارضة لن يجدي لأن النظام متمكن وبيده كل الخيوط الفاعلة، وكان علي أن أفرح لأني فرنسية وأعيش في فرنسا وعلي أن أنسى سورية وأهلها!!!
أي أن أفكر فقط بنفسي وأتمتع بحريتي الفرنسية!
أليست الشخصية المجتمعية السورية بخطر؟…أن يتعلق الإصلاح بالاقتصاد والإدارة، فأمره سهل…أن يتعلق بتغيير القوانين والدستور ، أيضا أمره سهل، لكن عندما يصل الخراب للنفس والعقل البشري وثقافته ومنهجه المعرفي في الحياة، فهنا تكمن الخطورة، لقد وصل غسل الدماغ السوري لحد مذهل ومخيف…سوسه الفساد وعفنه خطاب النظام وعقمه وشلله للمجتمع ولدور المواطن وإقصائه واستزلامه ومحسوبياته، والعودة به إلى مجاهل التخلف الديني الطائفي وعودة البدع والخرافة في تفسير مظاهر الحياة، وتملكها من فكر المواطن البسيط وتعلمه لطرق إبداع جديدة تقوم على التحايل والخداع والتزوير والتجميل المغشوش والمشوه( بكسر الشين)لوجه الحقيقة ولوجه الصدق في التعامل والترابط والتساوي ، وانعدام العفوية والبساطة …بل الخوف من أن يكون هو نفسه…عليه أن يتلبس دور مختلف ومغاير لما هو عليه…أن يرتدي قناعا لكل مناسبة ولكل مدخل ولكل وظيفة ولكل معاملة ومع كل مدير ومخبر ودار وبيت وجار وبقال…كم هو متعب هذا التعدد…كم هو مؤلم هذا الدور..؟!
يبدو أن معظم المجتمع السوري…لن أقول كله أبدا…فمازال هناك استثناء…لكنه مع الأسف مجرد استثناء…أؤكد أن معظم المجتمع السوري يستحق لقب” أحسن ممثل”، وهذا اللقب حاز عليه بفضل التخرج من مدرسة المسرح البعثي الطائفي السلطوي الأسدي بعد دراسة استمرت أربعة عقود..
لمن أتوجه؟…للمواطن الذي مازال به رمق من ماضٍ تليد، للمواطن الذي لم تؤثر فيه حملات الغسل الأيديولوجي المخابراتي…من بقي منكم على الحياة…فليحذر الخراب…فقد وصل لأبنائكم…احموهم لو استطعتم إليهم سبيلا.
ــ باريس 02/09/2008
خاص – صفحات سورية –