حول كتاب برنارد لويس «اللغة السياسية في الاسلام»:السلطة والمصطلحات
غازي دحمان
كتاب المستشرق برنارد لويس «اللغة السياسية في الاسلام» الصادر عن دار الرشيد في دمشق (بطبعته الثانية) يعتبر محاولة لتشريح السياسة في العالم الاسلامي، وتاريخاً للمتغيرات المهمة في وضع السلطة وواقعها في العالم الاسلامي، من خلال تتبع ظهور المصطلحات السياسية وعملية تبييئتها في المجالين السياسي والاجتماعي الاسلاميين. ويقول الكاتب انه عبر القرون، منح المسلمون الكثير من الاهتمام لبحث السياسة من خلال دراسة أعضاء ووظائف الجسم البشري، فوصفوا كيفية الوصول إلى السلطة، وممارستها، ومواصفات الحكومة الصالحة والحكومة الفاسدة، والعلاقات بين الحاكم والمحكوم. لقد رأينا في اللغات الإسلامية كلمات ومصطلحات ثريةٍ لدراسة هذه الموضوعات السياسية.
وفي التحليل السياسي الإسلامي، بدأ التاريخ الإسلامي بالانتصارات، لا بالهزائم، وبنشوء الإمبراطورية الإسلامية لا بسقوطها. وفي نظر المسلمين، السلطة السياسية ليست شراً، بل نعمة من الله، لأن هذه السلطة تقوم بواجب الحماية، والدعوة إلى دين الله (الإسلام)، وانتشار الشريعة.
لكن المسلمين لا يرون هذه الرؤية بل يعتقدون في قلوبهم بأنّ الله يساعد الإنسان، بخاصة عندما ينوي تحقيق النصرة للإسلام.
تجد الفلسفة الإسلامية جذوراً لها في كتابات أفلاطون وأرسطو لكن فلاسفة المسلمين ألبسوها ثوباً جديداً، وابتكروا مصطلحات سياسية جديدة.
ويرى الكاتب ان هناك كماً هائلاً من الكتابات الإسلامية التي يرجع تاريخها إلى أيام العصور الوسطى، وفي مجالات شتى، مثل التاريخ والأدب. وفي كتب التاريخ دراسات حول السياسة. كان الاهتمام بالسياسة عملياً وليس مجرد تنظير، وكان الاهتمام ينصبّ على موضوع إدارة الحكم وليس مجرد فلسفة سياسيّة وربما اشتملت الكتابات أسفاراً كاملة، وربما أخذت شكل أبواب وفصول في كتاب كبير، وهي مكرّسة لوصف فنون الحكم، وتخاطبُ حكام الدولة ووزراءَها.
تشمل كتب الفقه، من دون استثناء، فصولاً حول الولاية والحكم، وهي ليست مجرد فذلكة سياسية أو فلسفية، وليست مجرد تنظير، لكنها دستور تشريعي.
وبحسب الكاتب، تغطي الشريعة الإسلامية كل النشاطات البشرية من أدقها إلى أعظمها، ولذلك تنظم أيضاً شكل سلوك الحكومة في كل المناحي. وبما أن مصدر الشريعة إلهي سماوي، فإن الفقيه المشرّع لا ينظّر ولا يخترع من لدن نفسه، ولكنّ يصوغ الأحكام ويفسّر النصوص والمبادئ الأساسية الواردة في القرآن والحديث، ويعتمد على مصادر التشريع الأخرى المعترف بها. وهكذا فمسألة «الحكومة» من القضايا التي تخصّ الفقيه، وليست مجرد ظاهرة تاريخية أو تجريد سياسي، فالحكومة في ذهن الفقيه أداة أمر الله بها، وهي ضرورة وجزء من الترتيب الذي وضعه الله لتنظيم حياة الجنس البشري.
وينتقل الكاتب الى مناقشة دور الحكومة فيقول ان أول وظيفة تُطالب الحكومة بأدائها هي تمكين الأفراد من إقامة الحياة على النهج الإسلامي القويم، وهذا هو الهدف من قيام الدولة أولاً وأخيراً، ولهذا الهدف تقوم الدولة بإذن الله. ولا يمنح الإسلام الدولة ولا رجال الدولة حق الوجود إلا لتحقيق هذا الهدف السامي، ولذلك لا يملك رجال الدولة والسلطة حكماً على الرعية خارج هذا النطاق.
وتستمد الحكومة قيمتها، وتقوم تصرّفات رجال الدولة، من خلال المدى الذي وصل إليه تحقيق هذا الهدف. إن القاعدة الأساس في حياة المسلمين الاجتماعيّة والسياسية مصوغة في عبارة واحدة: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهي قاعدة مشتركة بين الحاكم والمحكوم، أو – باللغة السياسية المعاصرة – بين الفرد والدولة.
ومن حيث المبادئ، تعتمد الشريعة – في أمور السياسة وغيرها – على الوحي، ولذلك فهي غير قابلة للتغيير. وفي الواقع، مع مرور الزمن ظهرت تقسيمات في أوساط الفقهاء تتمشى مع الزمن ومتطلباته، وتتجاوب مع التغييرات الواقعية التي تحدث سواء من داخل الجماعة الإسلامية أو خارجها.
وخلال 14 قرناً مضت منذ هجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقام المسلمون العديد من الدول وأطلقوا عليها وصف «الإسلامية»، ومن الطبيعي، كما يحدث عادة في قضايا الإنسان، عكست تلك الحكومات ظروفاً وتحديات واستجابات متنوعة. وبينما يظل الفقيه (نظرياً على الأقل) مخلصاً لمبادئ الشريعة وأصولها، يبقى هناك مكان للاختلاف والتطوّر في تفسير وتطبيق تلك المبادئ.
لقد رضي علماء السلاطين المسلمين – لدى جماعة أهل السنة على الأقل – بمبدأ إمكانية تباين الناس في التقوى – ضمن حدود معينة – ويبقون مع ذلك ضمن حظيرة الالتزام. هذه الفكرة تعني التعايش والتسامح المتبادل بين المذاهب في الفقه الإسلامي. لقد أمكن الوصول إلى هذا المعنى من خلال مبدأ «الإجماع» كمصدر من مصادر التشريع.
ويؤكد الكاتب انه لدى الخوض في إطروحات الفكر السياسي الإسلامي، يقع المترجم في إشكال فاضح، فاستعمال اصطلاح «ثيوقراطية» يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم، لذلك يجب على الباحث تحديد مقصده من هذا الاصطلاح.
وتعني الثيوقراطية في الغرب دولة تحكمها الكنيسة، أي يقوم الكهنة بمهمة الحكم، ومن هذه الزاوية، فالإسلام ليس ثيوقراطياً، ففي الإسلام لا توجد طبقة «رجال دين» ومراتب كهنوت أو واسطة بين الرب والإنسان المؤمن.
كل ما هنالك أنّ العثمانيين خصصوا مفتياً لكل مقاطعة، ثم أنشأوا منصب «المفتي الأكبر» ومقرّه في اسطنبول، وقد ظل المفتي يعمل كمستشار في الأمور الشرعية. ومن المعروف أن هذا التقليد بدأ منذ نهاية العصور الوسطى.
أما في إيران، وبسبب التبني الرسمي للإسلام الشيعي في القرن السادس عشر، شهد طلب العلم نوعاً من الاحتراف، وظهر «المجتهد» بعدما أخذ – من الناحية السوسيولوجية – صفة رجل الدين. وتصاعد هذا الاتجاه حتى ظهرت مرتبة «آية الله» في القرن التاسع عشر، أول مرتبة إسلامية تعادل مرتبة (البابا) في الفاتيكان.
وعلى رغم كل ذلك، يبقى الإسلام من دون نظام كهنوت بالمعنى الثيولوجي البحت، أما إن قصدنا بالثيولوجية «حكم الرب»، فالإسلام ثيولوجي، وكثيراً ما نسمع الشعار «الحاكمية لله»، في النصوص الفقهية السياسية للدولة في الإسلام، الله وحده هو الحاكم، وهو المصدر الوحيد للسلطة. ولذلك، فالله وحده الذي يشرّع الأحكام والقوانين، والله وحده يعطي الشرعية للحكم والحكم. وهكذا، فالله هو السلطة العليا.
ولم يمنح الشرع الإسلامي السلطة المطلقة للحاكم، ولم يكن الحكام المسلمون قادرين على ممارسة السلطة المطلقة (ما عدا بعض الحالات الاستثنائية) لمدة طويلة من الزمن. صحيح أن بعد تنصيبه، يملك الحاكم سلطة واسعة، وتصبح الطاعة واجبة شرعاً على الرعية، إلا أن سلطة هذا الحاكم خاضعة لحدود وقيود كثيرة مهمة.
أما المبدأ الذي يخلق هذا التحديد للسلطة فهو أن الدولة لا تخلق القانون، بل إنها هي بالذات قامت بفعل القانون، والقانون يشرعه الله، ويقوم بتفسيره وتأويله خبراء هذه المهمة. واجب الحاكم هو الدفاع عن ذلك القانون، والتمسك به، والحفاظ عليه، والإلزام بتطبيقه. وهو – الحاكم – مُلزم بتطبيق القانون على نفسه بدرجة لا تقل عن أي فرد من رعيّته. ومن أجل تحقيق تلك الواجبات، قد يصوغ الحاكم بعض الأنظمة والقرارات من أجل توضيح القانون وتطبيقه، لكنه لا يستطيع تعديله أو الإضافة إليه. لم يميّز الكتاب السياسيون المسلمون – من السلف – بين الدولة وجهاز الحكم ومع ذلك استخدم كل مذهب مصطلحاته الخاصة. هناك كلمة «الإمامة» وهي الوظيفة التي تملك السلطة العليا، وصاحبها يسمى «إماماً». ويرجع جذر هذه الكلمة إلى معنى الأمام (عكس الرجوع إلى الخلف)، فالإمام يقود صفوف المصلين في المسجد وصفوف الجنود في ساحة القتال، فهو الرأس الديني والسياسي للمجتمع الإسلامي، وهو ينفّذ المهمة التي فرضها الله عليه: تنفيذ أوامر الله.
لقد اعتمد الفقهاء كلمة «إمامة» أكثر مما اعتمدوا كلمة “خلافة” لدى الحديث عن مؤهلات ووظائف وواجبات السلطة العليا في الدولة الإسلامية.
وبالعودة الى موضوع الحكومة، يقول الكاتب إن كلمة «أمر» وردت في القرآن بمعنى النفوذ والسلطان، فالشخص الذي يملك السلطة يُشار إليه بعبارة «صاحب الأمر»، وبالتالي فصاحب الأمر هو «الأمير»، وفي مكاتب الإدارة تُطلق كلمة «أميري» بمعنى حكومي أو إداري، وفي الزمن العثماني اختصرت الكلمة إلى لفظ «ميري»، فصرنا نسمع كلمات مثل: أرض ميري، ووظيفة ميري، أي «حكومي».
المصطلح الآخر هو “ولي”، ومنه كلمة «الوالي» وهو الذي يسيّر الأمور ومنه كلمة «الولاية»، وقد وردت عبارة لابن المقفع تقول: «ولاية الناس بلاء عظيم»، وبالمعنى ذاته يقول شكسبير: “يعشش القلق في رأس من يعتمر تاجاً”
وفي الزمن العثماني، اكتسبت كلمة «الولاية» بعداً إقليمياً، فالولاية هي المقاطعة أو المحافظة في لغة اليوم، أي المساحة المكانية التي تنتشر فوقها سلطة “الوالي”.
وكمثال، فإن العراق اليوم، كان في الزمن العثماني يسمى “ولاية الموصل”
وهناك كلمة محددة أخرى تشير للسلطة، هي”السلطان”، وقد وردت مرات عدة في القرآن بمعنى «القوة» وبمعنى النفوذ الذي يمارسه أحدهم على الآخرين: “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان”.
وعندما أرسل معاوية زياداً ليكون والي العراق، ألقى خطبة قال فيها: «نحن نحكمكم بسلطان من الله وهبنا إياه». وفي القرون التالية صار من المعتاد سماع الدعاء للحاكم بالقول:”أدام الله سلطانه”.
وابتداءً من القرن الثامن، صار الاصطلاح الأكثر شيوعاً لوصف الحكم هو «الدولة». ترجع الكلمة إلى جذورها: دول، أي الدوران والتتابع والتبادل، مثل تتابع فصول السنة. والقرآن ذاته يقول: «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، ثم ورد الاصطلاح ذاته في صيغة أخرى: «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم». وهكذا فكلمة دولة في دلالتها القديمة تشبه دوران ناعورة الماء أو دولاب الحظ فمصير الإنسان يرتفع مرة وينخفض مرة.
ويرى الكاتب ان المعنى السياسي لكلمة «دولة» قد بدأ مع الخلافة العباسية في منتصف القرن الثامن. لقد حظي الأمويون بدورة حكم ثم جاء دور آل العباس، ولذلك يقول ابن المقفع إنّ «الدنيا دول»، وهو يقصد بذلك أن الدنيا أطوار بين صعود وهبوط. لقد طال زمن الدولة العباسية، أي أن دورة حكمهم قد طالت وامتدّت، وهنا بدأت كلمة «الدولة» بالدالة الجديدة.
أما في الوقت الراهن، فإن الكلمة الشائعة في اللغة العربية والتركية والفارسية هي كلمة (حكومة)، وقد بدأ استخدامها في القرن التاسع عشر، مع أن الكلمة عميقة الجذور في تاريخ اللغة العربية. إن كلمة «الحكم» في اللغات السامية، ومنها العبرية، تعني الحكمة أو المعرفة، وكمثال، فإن الحكيم هو الطبيب، لكن المعنى الأكثر شيوعاً فهو القضاء والتحكيم. وهكذا فالحكومة في الأصل تحكيم يقوم به القاضي.
ومع مرور الزمن، أخذت كلمة حكومة دلالتها العامة بمعنى السلطة، ولذلك نجد عام 1801 في رسالة يكتبها الجنرال الفرنسي جاك مينو (وقد سمّى نفسه في ما بعد عبد الله) إلى الديوان في القاهرة، ويصف نفسه كقائد لجيوش الجمهورية الفرنسية وممثّل السلطة في مصر يستخدم كلمة «الحكومة» في رسالته تلك.
وفي بدايات القرن التاسع عشر، استخدم العثمانيون كلمة «حكومت» بمعنى السلطة السياسية. وكذلك ظهرت هذه الكلمة لدى ترجمة كتاب «الأمير» لميكافيللي.
أما المعنى الجليّ والواضح لكلمة حكومة فقد استخدم للمرة الأولى عام 1837 حين تحدّث الكاتب العثماني صادر رفعت عن «حكومة الدول الأوروبية».
وفي مقالته، يميّز الكاتب بين الدولة (دولت باللغة التركية) والحكومة (حكومت بالتركية)، ومنذ ذلك اليوم صار الفارق بين الكلمتين واضحاً وجليّاً.
في الأزمنة الحديثة، دخلت كلمة جديدة إلى المصطلحات السياسية، وهي ذات تداول عالمي، إنها كلمة «وطن» بما تحويه من عواطف وحنين. ليس هناك دلالات سياسية لكلمة الوطن، لكنها تثير الكثير من المشاعر، لأنها تعبر عن مكان ولادة المرء أو مكان معيشته.
ظهرت هذه الكلمة في اللغة الإسلامية في القرن الثامن عشر، وذلك في تقرير أرسله السفير العثماني بباريس عقب الثورة الفرنسية، فقد راح الثوّار يرددون كلمة الوطن، وما كانت شائعة قبل ذلك في اللغة الإسلامية.
في المرحلة الثانية، أي في القرن التاسع عشر، ظهرت دلالات سياسية جديدة لكلمة الوطن، وكل ذلك بتأثير من أوروبا بما فيها من تيارات وطنية وقومية، فالثورة الفرنسية حمّلت كلمة «الوطنية» دلالات الانتماء السياسي والولاء للسلطة الثورية.
وبعد رحيل الاستعمار، استلمت السلطة نخبة ذات توجهات غربية، فسيطرت على الحياة السياسية في بلادها، وها هي أفكارها تنتشر أكثر فأكثر في أوساط الناس الذين كانوا يرفضون المعايير السياسية الغربية في السابق. وفجأة، كشفت لنا الأحداث المعاصرة، أن الولاءات القديمة هي الأعمق، وأنها مثل الجمر والرماد، تبدو خامدة على السطح، لكنها تتوهج في القلب، وها هي تشقق سطح الدول في الزمن المعاصر. هكذا ينهي الكاتب بحثه ولا ندري أهو توصيف لواقع أم تحذير مما هو قادم.
الحياة – 30/08/08