القطيعة بين الأجيال الروائية: قلبت المائدة المستديرة في ملتقى الرواية العربية
ف
انسحب خيري شلبي انتصاراً لنجيب محفوظ
دمشق ‘القدس العربي’ من أنور بدر: يسجل لملتقى الرواية العربية الذي عُقد في دمشق ما بين 13 /16 آب (أغسطس) في قاعة الأوسكار من برج الفردوس أنه فتح على عناوين إشكالية في ‘تحولات الشكل في التجربة الروائية العربية، اللغة الروائية وتحولاتها في النص، الكتابة الجديدة قطيعة أم نص مغاير؟’ والتي أتحفتنا في ثلاثة أيام بمداخلات توزعت ما بين الشهادة الروائية والبحث النقدي، ما بين التوصيف والتصنيف عند البعض وبين التأريخ وتقديم سياقات ببلوغرافية عن آخرين. لكنها وشت في كل حقل من العناوين المدروسة بوجود تباينات لم تأخذ بعدها القصوي إلا في الجلسة الأخيرة التي استعادت عنوان ‘الكتابة الجديدة قطيعة أم نص مغاير؟’ عبر مائدة مستديرة شارك فيها أربعة أسماء من كتاب الرواية الجديدة إن صح هذا المصطلح، هم: ميرال طحاوي، خالد خليفة، سمر يزبك، وعبير اسبر، فيما تغيب أربعة آخرون مع الكاتبة فاطمة المحسن كرئيسة للجلسة مما ورّط الناقد المغربي محمد برادة برئاستها.
لكن عدد المشاركين الذي اختزل إلى النصف، كان كافياً لقلب المائدة المستديرة، حين تفجرت القطيعة بين المنتدين أنفسهم، حين أصرّ خالد خليفة على إعجابه بالكثير من النصوص القديمة مع أن كتابها بعد موتهم المبكر لم يسمحوا له بقتلهم. وحاول قلب معادلة القطيعة باعتبار كل الأدباء الذين سبقونا أنكروا أبوتنا، محاولين تكريس رموزهم من نجيب محفوظ في مصر إلى حنا مينة في سورية’. واختتم بقوله:’ باختصار أنا ابن ضال، ويحق لي أن أتحدث عن آبائي دون تبجيل، بل السؤال: هل لدينا آباء أصلاً، أم كجيل نحن أبناء زنا؟ وما معنى تواصلنا مع آباء لا يعترفون بنا؟ ‘.
الناقد برادة حاول تلطيف حدة الطرح بقوله: ربما تكون هذه الإشكالية مغلوطة، لأننا بالعصر الحديث نمتلك الجرأة على النقد أو حتى الشتم، الإشكالية ليست في القطيعة مع جيل الآباء، بل فيما ينتجه الأدب الجديد.
الكاتبة المصرية ميرال طحاوي فاجأت الجميع حين اعتذرت عن جرأتها لأولى على بعض الرموز، وحين تحدثت عن الكتابة النسائية باعتبارها تنطلق من أيديولوجية مضادة للرجل، معلنة توبتها بهذه المناسبة أو نضجها الذي يحيل كل ذلك إلى الماضي، ‘فأنا اليوم لا أعتقد بوجود جديد إلا بعض الطفرات في تاريخ الأدب، وكل جديد سيكون قديماً، وبذلك أكون الآن ارتدادية بعكس خالد خليفة، فليس هناك من جديد، وكل ما نرفضه في جيل الآباء موجود في إنتاجنا بشكل أو بآخر’.
الكاتبة السورية سمر يزبك حصرت حديثها بالرواية السورية، إذ شاع مصطلح الرواية السورية الجـــــديدة، بما يعكس أو يتضمن وجود رواية قديمة، وهذا الطرح غير صحيح، لأنّ ما وجد هو تيارات في الرواية السورية. وتابعت يزبك أنّ الرواية فن ديمقراطي ومفتوح وبعيد عن الكمال، وبالتالي لا توجد نقطة تقول عندها: هنا يتوقف القديم ليبدأ الجديد، فالمسألة تتعلق بالتجاوز عبر ممارسة الكتابة الروائية وليس القطيعة.
الكاتبة عبير اسبر خلصت من متابعتها لأعمال الملتقى أنّ حركة المنجز الروائي وحركة نقد الرواية هما في مكانين مختلفين، فما سمعت به أثناء الندوات من مطالبات وظيفيّة للأدب تتعارض مع طبيعته وجوهره، وبالتالي نقلت إلينا خيبتها مما طرح.
عاد خالد خليفة مفنداً ما وجه إليه من انتقادات مباشرة أم غير مباشرة، مؤكداً بعكس ما قاله برادة وطحاوي أننا كجيل لا نملك أي جرأة على النقد، نحن بحالة هياج كامل، واستشهد بواقع الدراما وتجربته الخاصة، حيث جرى الترحيب به ككاتب درامي منذ اول نص قدمه، لكنه كروائي منذ ‘حارس الخديعة’ عام 1989 لم يشر إليه كروائي حتى صدور ‘مديح الكراهية’ عام 2006 .
وبالنسبة لما سمعه من زملاء الطاولة المستديرة قال خليفة: ‘نحن جيل مجامل، تعودنا أن نجامل بعضنا والآخر، وأعتقد أنّ الساحة الثقافية والإعلامية في العالم العربي لم تشهد معركة ثقافية حقيقية منذ (15) سنة، ولذلك آن الوقت كي نتحوّل إلى حقيقة صلبة، أنا أطالب بالقطيعة وأن لا نستمع لما يُقال’.
عبير اسبر تحدثت عن تجربتها في ولوج عالم الأدب، والمخزون الثقافي والفني الذي جاءت منه، مضيفة: ‘الكتاب الذين صنعوا ذاكرتي، هم من صنعني كاتبة، وفكرتي لم تكن مع القطعية، كان لديّ وعي حقيقي بأنّ جيلنا ضحية الماضي، بالمقابل ‘أطلب من الفن أن يكون جميلاً ثم ممتعا ليغني ويُفيد’.
سمر يزبك قالت أن تردي الرواية العربية وتردي نقد الرواية هو شيء طبيعي، فنحن ننتمي لمجتمعات مستبدة، وهذه المجتمعات لا تنتج إلا ما يُشبهها، وهو بعكس المساحة الحرة للإبداع والفن، لذلك الكتابة عندي مرتبطة بالصعلكة والتصوّف بآن ٍ معاً، ولأننا لا نحيا بشروط إنسانية، يجب أن نتعامل مع أنفسنا كصعاليك ومتصوفة، وأنا ليست عندي أوهام بأنّ الأدب أو الفن سيغيّر الحياة، فالمكان مظلم. أمّا حول تجربتها في الكتابة فقالت: أنا جئت إلى الكتابة من الخجل وانتهيت إلى الوقاحة باعبتارها مكاشفة الواقع، وواقعنا لا يحترم أي مكاشفة له، لذلك تعتبر تلك الجرأة وقاحة.
ميرال طحاوي عادت تؤكد: نحن جيل له امتيازات كثيرة، لا أحد منا كان يحتاج إلى تعميد أو تكريس، وتحدثت عن النقد في مواجهة الإعلام والصحافة والمدونات الإلكترونية، ‘الصحفي أهم من التدشين النقدي، بدليل أنّ الكثير من الظواهر الأدبية فرضت نفسها رغم أنف النقاد’.
وعادت تسأل : هل نحن في معركة مع الجيل الذي قبلنا؟ وجوابها بالنفي، لأنّ كل ظاهرة في النصوص الجديدة لها جذر في النصوص القديمة، وخيري الشلبي على سبيل المثال قدّم كتابة الهامش منذ (30) سنة، وأنا اعتقد بعجزنا كجيل على تقديم أي جديد.
خالد خليفة تهكم على ما تدعيه طحاوي بامتيازات جيلنا وعجزه بنفس الوقت. قائلاً: هاني الراهب في الـ (24) سنة من عمره كان نجماً، وصديقي نبيل سليمان كذلك، مؤكداً على وجود اختلاف ما بين الواقع الثقافي في كل من مصر وسورية أو الخليج مثلاً. فميرال الطحاوي كما أكد الجميع: ‘سمعنا بها قبل أن نقرأ رواياتها’ وحول مفهومه للقطيعة عاد يؤكد: أنا ما زلت أستورد أساتذتي من الخارج، وأنا لا أقيم قطيــعة مع نصوص بعينها، بل مع مفهوم للسرد، ونحن بحاجة إلى قطيعة كاملة كي نكتشف الحجم الحقيق للكتابة الجديدة، مشروع القطيعة هو مع إرث كامل.
وتساءلت سمر يزبك: ما جدوى الحديث عن جيل سابق؟ نحن اشتغلنا على النص، وطبيعة الحياة تقضي وجود اختلاف، هناك ملامح تتحدد كل فترة وما أنجزناه ما زال غير واضح. الكاتب والناقد نبيل سليمان: علق من خارج الطاولة المستديرة موجهاً كلامه لعبير اسبر: أنّ الاشتغال الروائي على الموسيقى واللوحة بعينها لا يعني أن يكون البطل موسيقياً أو فناناً تشكيلياً، فخيري الشبيلي وإدوارد خرّاط اشتغلا على الموسيقى، و’خضراء كالبحار’ فيها شغل على الفن التشكيلي، المسألة كيف نبني الرواية كلوحة تتمازج فيها الألوان وتتقاطع فيها الخطوط، أو كهارموني موسيقي بطبقات وإيقاعات متداخلة ومتباينة.
أمّا في خطابه لخالد خليفة فأكدّ: نحن نضيّع الكثير من الوقت لنكسب الاعتراف، لكن المعركة فيما أظن وهمية، تعالوا نفكر بالاختلاف وليس القطيعة.
الروائي إبراهيم علّوش أضاف أنّ الحياة الثقافية السورية تقوم على النبذ والإقصاء، وهذا غير موجود في مصر مثلاً: ميرال طحاوي وصلتنا قبل أن نقرأ رواياتها.
الكاتب حسين بن حمزة ألقى ما يُشبه القنبلة حين استغرب هزيمة (20) كاتبا وروائيا عربيا جديدا في هذا الملتقى على يد فيصل درّاج ونبيل سليمان فقط.
علي بدر تحدث عن معارك مشابهة في العراق، لكن تمّ تجاوزها عبر المنجز الروائي، وكذلك كان حديث آخر عن الإشكالية في الجزائر، مع تأكيد أنّ القطيعة لا تأتي بقرار ولكنها حصيلة تطورات، وما حصل في الجزائر أنّ الكتابة الجديدة هي كتابة الجنس الفاضح، وليست تطوّراً في البنية واللغة.
الكاتب عمر قدور أشار لكونه أقرب الى ما طرحته سمر يزبك، ففي العقدين الأخيرين نشر حنا مينة حوالي عشر روايات، لم اقرأ في الإعلام والصحافة أي نقد لها، وأضاف أنّ إعلامنا السوري لا يصنع نجوما. وبالنسبة للرواية الجديدة قال: في جيلنا جرأة اجتماعية لا توازيها الجرأة الفنية.
وعند ما عاد الدور لخالد خليفة أكدّ أنّ روايات حنا مينة الأخيرة، لم يكتب عنها، لكن أحداً لم يتناولها بالنقد، وكذلك كتاب نجيب محفوظ الأخيرة ‘سيرة ذاتية’ اعتبره غير صالح للنشر، وهنا خرج الكاتب والروائي المصري خيري الشلبي، مفسحا المجال لخالد خليفة أن يعلن انتصاره على جيل لا يقبل ملاحظة ويطالب بأبوتنا، موضحاً: أنّه لو كان مسؤولاً لأقام خمسة تماثيل لنجيب محفوظ في سورية، لكنه ضد تقديس أي تمثال أو نصب.
القدس العربي