صفحات ثقافية

توقفوا عن الموت!

null
الياس خوري
حملت رندة الشهال معها منزلها الصغير في رمل الظريف في بيروت، الى منزلها الباريسي الكبير. وكان بيتها ملتقى للاصدقاء اللبنانيين والسوريين والمصريين، الذين جمعتهم اسئلة البداية، وسط الحرب الأهلية اللبنانية ومآسيها.
كانت ابنة طرابلس تتصرف في وصفها الشقيقة الصغرى للجميع، بكل ما تحمله هذه الكلمة من شيطنة ودلال وانتظار. كبرت رندة، وجاء فيلمها “حروبنا الطائشة”، كي يعلن ان الطفلة الحائرة وجدت طريقها الى السينما التي عشقتها. كبرت رندة لكنها بقيت صغيرة. كانت تحمل في داخلها وعدا بشيء يبحث عن بداياته. نالت “الأسد الفضي” في مهرجان البندقية عن فيلمها الأخير “طيارة من ورق”، وظلت على موعد مع البداية. لا ادري سر هذه المرأة التي كانت حين تحضر الأفلام، تصدّقها الى درجة الخوف الحقيقي، والتي حملت في داخلها حلم اليسار اللبناني الذي لم تزعزعه كوابيس الحرب الأهلية، ولم تحبطه الاقامة في البيت الباريسي الكبير.
في فيلمها الجميل “حروبنا الطائشة”، لا تتوقف عند الذاتي والعائلي الا من اجل ان تفسح في المجال للحلم الذي جسّده خليل عكاوي (ابو عربي) وهو يطل من خلف حجاب الموت، مرسوما بهالة الشهادة، وحاملا على كتفيه آلام فقراء باب التبانة وغضبهم وثورتهم المجهضة.
قبل ان تموت، كانت رندة تستعد لفتح صفحة سينمائية جديدة. بعد “متحضرات”، الذي منعته رقابة الأمن العام اللبناني، بدأت الاعداد للدخول في السينما الشعبية، عبر فيلم كان من المقدر ان تسند بطولته الى هيفا وهبي. حكاية بسيطة عن صيادين وبار صغير، وفريق كرة قدم. لم اقرأ السيناريو، لكن ما علق في ذهني من كلام المخرجة عن فيلمها، اثار حيرتي، ووضعني في قلب الاسئلة التي كان يتخبط فيها جيل الحرب اللبنانية، الذي ذهب في مغامرة الموت والهجرة والابداع الى تخوم مجهولة وغامضة الملامح.
الفتاة بقيت صغيرة، على رغم انها صارت أماً، وصنعت افلاما. ناضلت وهاجرت وعادت من دون ان تعود. في بيتها ولدت افلام لمخرجين غيّروا المشهد السينمائي العربي. على شرفة منزلها الصغير في رمل الظريف رأيت “المنام” الفلسطيني في عيني محمد ملص، وشهدت كيف صار يسري نصرالله مخرجا سينمائيا، وتعرفت الى كواليس اليسار اللبناني الجديد الذي لعب بالموت واحتمالات التغيير. هناك التقيت ميشال سورا، ورأيت فيلم عمر اميرالاي قبل ان يتدثر ذلك الفرنسي الرائع بموته الذي صنعته قسوة الخاطفين. وفي منزلها الباريسي التقيت سيمون بيتون وريجيس دوبريه واسامة محمد، وتعرفت الى نكهة اخرى لباريس، التي احتضنت اسئلتنا المبكرة.
السرطان لا يليق بها، لكنه جاء من حيث لا تدري. حاولت ان تصنع فيلمها الأخير كفعل مقاومة للموت، لكنها كشفت لنا بأن الموت لا يقاوَم، وبأن على جيلنا ان يتعامل مع ملاك العتمة بكرامة وكبرياء.
لكن ايها الاصدقاء توقفوا عن الموت قليلا. نحتاج الى فسحة للبكاء بين موت وموت. توقفوا عن الموت كي نستعد لموت يليق بنا.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى