مدن الموت بعد “مدن الملح”
د. طيب تيزيني
ترك الروائي الكبير الراحل عبدالرحمن منيف إرثاً مهماً من الإنتاج الروائي الذي برز فيه بمثابة أحد أهم الروائيين العرب، ومن هذا الإنتاج الغزير نسبياً “مدن الملح”. وإذا كان الراحل قد وثّق في روايته هذه لواحدة من أكثر المراحل العربية قلقاً وامتلاء بالأحداث المؤسِّسة، وخصوصاً ما راح يتدفق بقوة في إطار مرحلة السبعينيات”، “مرحلة اكتشاف النفط والنفط السياسي”، من خسائر وهزائم، فإن لظهور النفط هذا وجهاً آخر راح يُفصح عن نفسه ببطء أولاً، ثم بتسارع كبير. كان ذلك قد أخذ يظهر بصيغة مشاريع عمرانية واقتصادية وثقافية وغيرها. وفي سياق سطوع تلك المشاريع وتحولها إلى واقع حي في بلدان من الخليج العربي، اتضح أن الثروات الهائلة التي جرى ضخها من الريع النفطي، قد أخذ قسم كبير منها يذهب باتجاه تلك المشاريع، لقد انطلق المشروع العربي الخليجي لتأسيس نمط جديد من “المدينة” مع بواكير السبعينيات من القرن المنصرم.
لقد نشأت “مدينة” جديدة حقاً عانتْ – عبر مسيرة تكوُّنها السريعة – من صعوبات أو أخرى، وفي مقدمتها أنْسنة الطبيعة الصحراوية عموماً. فكان على القائمين على ذلك أن بذلوا جهوداً مكثفة باتجاه لمْلمة الطاقات العلمية بكل تخصصاتها اللازمة، للبدء في اجتراح المشروع الكبير. وكان هذا الأخير يشترط منذ البدء وجود نخبة من العلماء والسياسيين والمخططين تتسم بثلاث سمات، هي أولاً الإيمان العميق بالضرورة التاريخية لإنتاج حالة جديدة متقدمة من “العيش الإنساني” على شرط أن يتم ذلك عبر استلهام ما ظل قائماً في “المدينة الخليجية التاريخية” استلهاماً يحقق مقومات الأصالة معاصرة والمعاصرة أصالة. أما السمة الثانية، فتتمثل في أن المدينة الجديدة العتيدة لن تكون محققة للأهداف المطلوبة منها، ما لم تلتزم التزاماً كلياً أو شبه كلي بشرائط البيئة الكونية الصحية، مما يعني أن بناءها لابد أن يهتدي بنتائج خطط بحثية مستقبلية، درءاً لما قد يحدث لاحقاً من تحولات بيئية ضارة كثيراً أو قليلاً. وتبرز السمة الثالثة في ضرورة أن تأتي المدينة الجديدة مستجيبة لشرط العدل في توزيع سكن مناسب (صحي ورخيص وضمن شبكة مفتوحة من الاتصالات المريحة) على كل فئات وطبقات الشعب، وخصوصاً منها ذوي الدخول المتوسطة والمتدنية وغيرها.
جاء ذلك بنسبة مقبولة من النجاح، وربما كان هذا النجاح مشروطاً بوجود طواقم من المسؤولين الممولين الذين ينظرون إلى مصالحهم الخاصة عبر مصالح الجمهور العمومي، وإلى مصالح هذا الجمهور بوصف كونه معيار النظر في مصالحهم الخاصة، وبحسب اللسان الشعبي في المجتمع الخليجي، فإن تلك المعادلة تحققت في أهم حيثية لها وهي: أعْطوا وأخذوا يُقال ذلك كله بإقرار بأن أخطاء ومثالب حدثت هنا وهناك، لكن تقويمها ربما تم في حالات كثيرة، اشترك فيها قانون الدولة الحديثة وأعراف المجتمع السابق على الدولة.
جريدة الاتحاد