صفحات ثقافية

الإعجاب كواجب وطني في “العاصمة العاطفية”

null
علي ديوب (*)
لا أستطيع إخفاء حسرتي وإشفاقي على محبي زياد الرحباني، من مواطنيّ السوريين الذين صار من حقهم ـ غير المكتسب ـ فجأة، أو من الحق عليهم (واجبهم) إعلان محبتهم جهرا لزياد، بصورة مشحونة بالعلانية في أكثر صورها صراخاً. وربما صخباً، إذا تصورنا المحرومين من الترحيب به لعلة لا تتصل بهم، بل بالمتحكمين بالحب والكره والعطاء والحرمان.. ولا أقصد بالمحرومين فقط أولئك من يتمتعون بلباسهم الموحد، وراء القضبان ـ ممن ينتمون إلى ربيع دمشق وسواهم من جماعات الاصلاح بالطرق السلمية ـ بل أيضا أشباههم من المواطنين باللباس غير الموحد، في الجهة الأخرى للقضبان، والمتمتعين بالصبر على المكاره أوالراكعين على ركب الخوف والمعرفة. لست حزينا لعدم استتباب الالتفاف حول الفنان ـ الرمز. لدرجة التنزيه (وقبله تم رفع حزب الله فوق حق التناول بالنقد)، واستبداله بالحرية والاستقلال بالرأي؛ بل أنا حزين بسبب هذا الأمر تحديدا. وأقصد بذلك الطريقة التي يسمح للمواطن في بلدي أن يبدي فيها مشاعره، أويصرّح بأي حق من حقوق البشر، في هذا العصر. فالحكام في بلدي لا يعترفون لا بالبشر ولا بالزمن نفسه، إلا كتعبيرات عنهم هم. صحيح أن مجرد الاعتراف بزياد الرحباني كان ولفترة قريبة من المحرمات، فانقلب اليوم إلى نوع من الولاءات الوطنية، ولكن هذا لم يتحصل عن حركة تقدم للزمن أو لمزامنيه. فلا يزال المواطن ممسوكا جيدا: يحب ما يجب، ويكره ما يجب، يتجاهل، يعتز، يستنكر، أو يقدس.. الخ على الصراط المرسوم، بريشة قوانين الطوارئ والأحكام العرفية العسكرتارية، التي حولت البلد إلى ثكنة، والقضاء المدني إلى محاكم ميدانية، تسير بالوصاية الأمينة.
لا أريد أن أفهم خطأ، بأني أنتقص من حب المحبين لزياد، أوآخذ عليهم طريقتهم في ذلك.. فمرماي ليس هنا. وأنا لست من هواة المزاودة على أحد ـ بل من دعاة وهواة السلم والتواصل والتفاهم بين المخلوقات، بمن فيها غير العاقلة. ولكني أرتعد للسلوك الترويضي الذي لا يبدو أن بلدي، بكل ألوان المواطنين فيه، سيتحرر منه.
يحرم المناضلون من القتال مع العدو من خلال الحدود السورية، فيحترمون حرمانهم. ويسمح لهم أن يستخدموا موقعاً آخر لهذا الغرض، في بلد شقيق، فيتجاهلون تبعات ذلك على أسرة الشقيق التي يصبح دوسها ممراً إجبارياً للتشفي من العدو. وحين يمنحون حق الصراخ على تلال مجدل شمس (معادلاً ميثولوجيا للنضال، بل وللتحرير: كم هو جميل أن تحرر المكان كل سنة مرة!). وحين درّبوا على نسيان لواء اسكندرون، تحول هذا إلى شأن غير مفكر فيه، أو ممتنع عن، أو على، التفكير ـ بحسب علي حرب ـ بعد أن كان ممنوعاً فقط. فرفع فوق مستوى الخوض.
كان شيخ يقرأ على بعض المتحلقين حوله مأساة الحسين، وكان هؤلاء يتبعون طقسا أتقنوه منذ طفولتهم، حتى بات آليا. وكان أحدهم يبالغ في الندب والصراخ، ويزحف أقرب فأقرب حتى ضايق الشيخ الذي تنفس الصعداء حين أتم القراءة. ولما سئل عمّن سيدخل الجنة لم يستطع الشيخ أن يهرب من ذكر هذا المفرط في النواح، في عداد من ذكرهم؛ ولكنه انتقم لنفسه منه بأن نعته بعبارة قبيحة!
تبدو المجتمعات مجرد أدوات في اللعبة المخترعة. وكل يتعود دوره، ثم يقبل، وأخيرا يفتخر به ويدافع عنه ـ بعد أن تماهى به وتطابق مع تمثله لمفهوم القيمة.
حين تغلق كل السبل أمام الكائن، وتبقي على مخرج واحد، فإنه سيندفع خارجا بقوة من ذلك المنفذ ـ وقد ماهى بين هذا المنفذ وبين الحرية والحب والسعادة.. بل والحياة نفسها! هذه المبالغة في تثمين السبيل المفتوح لا تأتي إذن من قيمته الحقيقية؛ فقد يكون السبيل هذا أشد هولاً من السجن، ولكن الإنسان يعبد ذاته، ولا يتحمل الإحساس بالتجاهل. حتى حين يبدو عليه أنه من الزهاد. ويختار لتحقيق غاية الغايات( القيمة) ما هو متاح من الخيارات. وحتى حين يكون السجن هو الخيار الوحيد أمامه، فإنه يقبله بإقدام. هل قبل سقراط تنفيذ حكم الموت به تحت شدة هذا الدافع؟
لن أماحك في حقوق زياد الإنسان والفنان والمواطن السياسي ـ وهو ممن يجيدون اكتساب وفرض حقوقهم ـ ولكني كنت أنتظر أن أسمع كلمة تترجم فهمه العميق لمعنى الحب السوري ـ في تلك العاصمة التي وصفت بالعاطفية نسبة لطريقة تعامل أهلها معه ـ بأن يضعه تحت مجهره الميكروسكوبي، أو يحلله بعناصره الكيميائية الناقدة الفعالة، كفنان نفتقر لمن هو في مستواه عربيا. وليست المحاولة بغريبة أو صعبة على صاحب أغنية “رفيقي صبحي الجيز”. كنت أنتظر أن أسمع منه تحية لجورج حاوي رفيقه أيضاً، وتحديداً في سورية التي يسجن فيها مثقف اقترف ذنب التعزية بذلك الرجل.
قد أبدو أني أخوض في خارج حقلي، ولكي لا تنطبق علي شرارته التي وردت في برنامج زياد الشهير العقل زينة عن شخص يتدخل بين الرفاق، فأنا في الأخير لست رفيقا لزياد ولا جورج حاوي، أظل في نطاق عاصمة بلدي العاطفية وأسأل: ألا يعلم اللبنانيون مثل السوريين أن حرية تعليق اليافطات ليست من البراءة والتلقائية التي تتحلى بها العاطفة الحرة، في عموم سورية. وأن الحرية الموجهة في بلدي أشد إيلاماً ومقتاً من العبودية المفروضة؟ فقط لو أن زيادا ما يزال في إطار الحظر والمحظور: هل كان ليعلم بزيارته أحد؟ وهل كان يتسنى حتى لأصدقائه أن يتبرعوا لتسجيل شريط لها (إذا افترضنا توفر قدرتهم المالية)؟
بالتأكيد لست نادما على عهد الحب المهرب ـ يوم كنا نحتفي بزياد أو بمارسيل أوبسواهما ـ ولكني أشفق على الحب والإعجاب والتقدير.. وكلها من جواهر الحرية الذاتية البسيطة.. أن تصبح عقبة. أما لحرية ذاتها: حين تغدو واجباً وطنياً. يقابلها الصمت المفروض عن النقد والاختلاف، الذي تطال مقترفها شبهة الخروج عن الصف.

(*) صحافي سوري مقيم في بريطاني
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى