صفحات ثقافية

إنّهم يسرقون تمثال الشاعر: “الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم”

null
تورنتو ـ جاكلين سلام(*)
كان الشاعر محمود درويش ممتناً وهو يحضر حفل تكريمه بمناسبة اختيار تصميم للنصب التذكاري الذي قدم عربون تقدير وإكبار من قبل بلدية رام الله ـ فلسطين، إلى شاعرها وهو لايزال على حافة الحضور والغياب. حين قرأت خبر تدشين ذلك النصب التذكاري وقرأت رد فعل درويش آنذاك فرحت من أجل الشعر الذي يُكرم والشاعر حيّ. وفرحت أيضاً بأن تكون فلسطين منتبهة إلى جمالية هذه الخطوة رغم العواصف اليومية، السياسية والمعيشية. أصبحنا نكرّم الشعراء الأحياء المستحقين، وهي أمة تعودت أن تلتفت إلى مبدعيها وتذرف عليهم الدمع وتلطم الكلمات المجاملة بعد رحيلهم.
كان ذلك في أواسط أيار/مايو 2008، حيث تم الإعلان عن اسم الفائز بمسابقة فنية يتم بمقتضاها اختيار النصب التذكاري الذي يعكس روح الشاعر وصورة قصيدته. ورد في الخبر مايلي: اختارت اللجنة المشرفة على مسابقة افضل تصميم لميدان الشاعر محمود درويش ما صممه المهندسان خليل عرفة وابراهيم يونان ويضم التصميم ألواحا زجاجية متعددة الارتفاعات بين ثلاثة وستة أمتار وسط بركة من الماء فيها شلال تحيط به أشجار السنديان، إضافة الى جداريات من قصيدة للشاعر.
تلقى درويش هذا المشروع بدمع وفرح طفولي مشوب بالخجل. وقال “أود أن أشكر بأعمق المشاعر والعواطف مبادرة بلدية رام الله بالاقدام على شيء غير عادي في حياتنا العربية والفلسطينية، فليس من المألوف أن يكرم الاحياء وهذه سابقة لا أعرف كيف استقبلها. ولكن مكاني ليس هنا. ليس من الضروري أن أكون في هذا الحفل لأن الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم وما استمعت اليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد”.
وغادر الشاعر قبل أن يشهد تنفيذ المشروع على أرض الواقع. غادر ليحل نصبه التذكاري بين محبيه في الوطن والعالم.
ليس الشرق وحده، بل والغرب أيضاً، مقلّ في تكريم الشعراء بإقامة نصب أو تمثال أو حديقة بأسمائهم. ففي تورنتو كندا المدينة الشاسعة التي تكثر في حدائقها التماثيل والمنحوتات الفنية والجماليات المتنوعة، قلما نجد تمثالاً لشاعر. هناك ـ حسب معلوماتي ـ تمثال قديم لشاعر وتمثال نصفي لشاعرة، وتم مؤخراً نصب تمثال كامل من البرونز الأسود للشاعر الكندي “آل بوردي” الراحل منذ عشر سنوات تقريباً، وقد خُطّت على حافة التمثال عبارة تلخص مكانة هذا الشاعر في الوجدان الكندي وهي “صوت الأرض” وكان ذلك في منتصف أيار/مايو 2008. أزاحت أرملة الشاعر الغطاء عن التمثال ليبقى حاضراً وسط ساحة “كوينز بارك” برفقة الأبطال والأحصنة التي شاركت في الحروب وبرفقة الجندي المجهول وكبار زعماء البلد. يجلس الشاعر بينهم وعينه تتجه نحو الشارع العام، لعله يلحظ حسناء عابرة ويدعوها لكأس البيرة ـ الكندية ـ التي كانت شرابه المفضل.
تم تكريم هذا الشاعر الذي كان من أوائل من خطوا خريطة إبداعية شعرية لهذا البلد الذي يسمى كندا واستقلالها عن دول الجوار وعن الكولونيالية والتبعية التي خضعت لها من قبل بريطانيا. الشاعر الذي حقّ له لقب الصعلوك، عانى الفقر الشديد وبيديه شيّد مسكناً له ولزوجته، ليقيه من شتاءات اونتاريو الفظة الطويلة. الآن يضع المارة وردة عند قدمي التمثال ويتنهدون، يرفعون ظهرهم المتعب ويقولون: واو، كم تمضي الأيام مسرعة. كنا صغارا حين درسنا شعره وقرأناه على مقاعد الدراسة. ثم يتابعون السير وتلاوة القصيدة عن ظهر قلب. يغادرون تمثال الشاعر لكن يبقى الحمام ليترك فضلاته فوق أزرار قميص تمثال الشاعر. الشاعر لايعبأ بذلك، لقد كان يحبّ الحمام، كما كان درويش يغني له حين يطير وحين يحطّ الحمام، قيل عن صوت آل بودري الشعري بأنه “صوت الأرض” ولم يكن الشاعر يقاتل من أجل حرية مستلبة بالمعنى السياسي. ولم يكن منفياً من بلده لكنه كان من أوائل من ساهم في صياغة هوية فنية وأدبية لبلده الذي استكمل وجوده بالاعتماد على الهجرات والمهاجرين قديما وحديثاً. وحقّ لهؤلاء المهاجرين أيضاً أن ينصبوا تماثيل لشعراء من البلاد التي قدموا منها. ونذكر منهم تمثال الشاعر تاراس شيفشنكو الروسي الاوركراييني (9 مارس 1819ـ10 مارس 1861) والذي كان يتيماً وعبدا مملوكاً من قبل الإقطاعي. الشاعر فقير، واشترى الأصدقاء والمعجبون حريته بالنقود، من خلال لوحة فنية رسمها فنان مؤمن بموهبة هذا الفتى. كان المبلغ كبيراً في ذلك الوقت لأن المالك كان يدرك أن هذا الشخص يمتلك موهبة وقدرات خاصة.
عاش الشاعر منفياً لسنوات لأنّ صوته الرافض ونقده للسطلة القعمية الحاكمة في تلك الفترة كان مسموعاً وغير مستحب. ولم يستطع “شيفشنكو” اكمال دراسته الفنية الاكاديمية إلا من خلال المساعدات والقبول التشريفي وبدعم من قبل كبار الشعراء والفنانين المعروفين في ذلك الزمن.
بعض البلاد تُحار في صياغة هوية لها. وبلاد أخرى لها هوية متجذرة في الأرض والتاريخ، يحاولون نفيها وطمرها، لكنها تتجذر بالكلمة وبالصورة، بالحجر وبغضن الزيتون. بعض البلاد، لايحتلها الغريب القادم من شتات الأرض بل يقوم أبناؤها باستعباد أبنائها الأدنى في السلم الإجتماعي والاقتصادي. يستعبدون أبناء مدينتهم وقراهم، بشر مثلهم لهم نفس لون الجلد ونفس اللغة والجذر منغرس في العظم والجينات ذاتها. تتضخم سطوة السلطة الحاكمة ويبقى صوت الشاعر أكثر عشقاُ للحرية والأرض، يشهد الشاعر بكلمات بعيدة المدى والصدى تبقى مزرعة في الوجدان الكوني. لأنها “في البدء كانت الكلمة” التي تخبر وتبوح، وتحمل دمعة الوطن وصنوبراته وثلوجه، ضبابه وجماله.
كثيرون يمرون بتمثال الشاعر المنفي يتنهدون ويقولون: هنا شاعر كتب لنا صفحة في الحب، غازلنا بها حبيباتنا اللواتي لم نستطع أن نحتفظ بهن. هذا شاعر علمنا كيف نغني ملحمة عن امرأة أضناها العشق وحملت بذرة الحب في جسدها، فرجمها الحبيب بخيانة النكران، ونفت المرأة نفسها عن البلاد لتبحث عن بيت تحتمي به هي وجنينها من “عارها”. يذكر أن الملحمة الغنائية الشعرية “كاترينا” التي كتبها تاراس شيفشنكو، والتي كانت تحكي قصة امرأة تعرضت للطرد بعد حملها ـ المنكر ـ دون زواج. وفيما بعد أصبحت هذه الشخصية ملهمة لكثير من الرسامين الروس، وترجمت القصيدة الطويلة إلى لغات عدة.
إنه التاريخ وما أكثر زلاّته. دوماً هناك شعب، فقير وبخيل وسلطة وتخلف ورجعية وطغاة، صغار طغاة، وسارقو لقمة عيش ووطن. وهناك شعر وشاعر وحلم مكسور، علم ممزق وأرض مستباحة، أرض تحرسها الأقلام والقصائد والروايات والفنون. بعضهم يرى في التمثال تاريخاً ووطناً وجمالاً وإجلالاً لصوت يقاوم دون سلاح ويبتكر صوراً للحياة البديلة، وبعضهم يرى فيه كتلة حديد أو برونزاً أحمر أو أسود. هنا في تورنتو تسلل بعضهم في الليل إلى المنتزه وانتهك وقفة الشاعر المنفي، تاراس شيفشنكو، في حديقة العالم وحيدا تحت البرد وتحت الريح وتحت الشمس. تسلّل السارقون، وضعوا سلماً خشبياً أوصلهم إلى رقبة الشاعر، جعلوا الشاعر يترجل عن ملكوته، جروه في ساحة المنتزه، أدخلوه إلى شاحنة كبيرة، سرقوه عن أبناء جاليته وعشاق الفن. في المصنع قطعوه إرباً إرباً، ثم باعوه قطعا برونزية (خردة) للتجار، فيما كان البوليس مشغولا بالبحث عن التمثال المسروق. بقي رأس الشاعر التمثال مصيبة أقلقت السارقين. أين سيذهبون برأسه؟ رأس الشاعر مشكلة، في الحياة وبعد الممات. حاولوا تقطيع الرأس بالمنشار، ثم عدلوا عن ذلك، ذهبوا ليبيعوه على أنه تمثال “لينين” لكن القدر وضعهم في قبضة البوليس واستعاد عشاق الشاعر ما تبقى من رأسه المجزوز. لينضم إلى المتحف الصغير الذي يقيم في دوان تاون تورنتو، لينام على الأرض محاطاً بشراشف اوكرانية الصنع. ليستلقي بشاربه الكث وسحنته القاسية، ينظر في عين الزائر ويشير إلى صفحات من تاريخ الرق والعبودية والحرية واستعادة الحياة بعد الموت. استعادة ذاته وفردوسه المفقود بالكلمة الشاعرة التي جعلته فرداً في “أسرة الحرية” التي يسمع عنها الكثيرون في القرن الحادي والعشرين ولايتذوقون نعمها.
كان صباحاً مباركاً حين أخذتني الصدفة إلى ذاك الشارع واستوقفني اسم المتحف الصغير الذي ترعاه وتدعمه الجالية الاوكرانية في تورنتو، وبدعم من بلدية تورنتو. قرعت جرس الباب بعد تردد، فتحت لي سيدة شابة روسية، وقدمت لي جولة لأكثر من ساعة وهي تستعرض حياة الشاعر، لوحاته المعلقة على الجدار، وآخر ما استجد في قضية محاكمة سارقي التمثال. لاحظت اهتمامي بالموضوع، فزودتني بجرائد ومعلومات عن الشاعر، ثم نسخت لي إحدى قصائد الشاعر مترجمة إلى العربية، والسريانية أيضاً. ألتقطت صوراً لما تبقى من رأس التمثال. كان وقع أسنان المنشار عليه موجعاً يمتد من الرقبة ويتوقف قبل أن يصل الفم.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى