صفحات ثقافية

الأغنياء يريدوننا امواتاً هادئين

null
عناية جابر
الأثيوبيون مُهددون بالمــــــوت جوعاً. كثيرون من شعوب الأرض يحتضرون من حاجتهم الى الغذاء. انهم موتى فعلاً. صورهم على الشاشة لا تشي بأي بارقة حياة.
رؤوس كروية وأجساد جافّة مُغضنة مُسندة الى صدور أمهاتها. أجساد تنضـــح موتهــــا في الغبار. ما تبقى من رمق فيهم لم يعد ينفع إلاّ لرفض الحياة أكثر. كرات ملأى بالهواء والديدان بطونهم، وتكتسي أفواههم برغوة بيضاء. تتنقّل عيناي على أجسادهم وشيء كالخزي يلتصق بجلدي. خزي ٌ من لــــوني وشبــــعي. خزيٌ من سرقتي صور احتضارهم، من حاجتي الى خزي عمومي، وخزي أكثر من حقيقـــــة أنني لســت ‘منــذورة’ لرأب صــــدع العالم كله، لست نبية ولا ملاكاً ولا طاقة لي على حبهم كلهم. المرأة تمسح اللعاب عــــن فم طفلها وتهـــــشّ الذباب عن عينيه وتتنــــصّت على صوت تنفسّه. أضع أذني على زجـــــاج الشاشة الــــبارد فلا أسمع نبضــــهم، ولا نبضي.
تتوارى نظرتي تحت جلودهم المزرّقة ويسير باستقامة رمح نحو قلوبهم المهلهلة الصغيرة .
انني أعرف أنني أمهم جميعاً. ولقد لمستهم وعشت معهم وولدتهم لكنني لاأذكر أنني أطعمتهم .أنني أقصّرعن عالم الجياع، ويتململون جوعاً هناك في البعيد وعلى مرمى هذه الكاميرا. الموت يزحف حثيثاً، وتنسلّ حيواتهم خلسة، وما من طاقة على اغماضة أخيرة. حيوات تختبىء وترحل، وحيوات ساكنة، ومن حيث يتفرّج عليهم العالم ثمة اللامبالاة والنكران الأجشّ. دقيقة بعد من أعمارهم، دقيقة واحدة ساخنة، يُبخرّها النظر.
ماكان عليّ أن اكتب هذا الموت التفصيلي لتمويه عجزي عن فعل أيّ شيء مُساعد. ينبغي أن تكون الأكاذيب بسيطة جداً، كالصدق. ان التفصيل المفرط هو ببساطة افراط، لكنني فعلاً شديدة التعب والحزن بعد رحلة طويلة من التحديق في الموت بعينه، شديدة التفاصيل حتى أخشى أنني لن اكون مُقنعة.
هذه المرّة اريد أن امضي مُفردة، اكتب في موتهم وفي الهواء القليل الذي يتنفســـونه. الأغنياء يريدون حياة الناس السود. الأغنياء يريدون الأطفال السود أمواتاً وهادئين أنهم يحبون شيئاً من اللون الزعفراني في حدقاتهم وأفكر أنه لابدّ للآلهة ضلع في جــــــوع هؤلاء وشبع اولئك.
مليئة بالحزن والقنوط حيال عذاباتهم وأشعر بالأرتباط كما لوعاهة، حبل سرّة طويل أسرار نتشاركها بشكل غامض. وباستثناء انني أملك قوتي، طعامي ونزهاتي .. أملك اكثر، احتضاري الخاص.
أبكي اذ أعرف أنني بعيدة، ملايين الأميال بعيدة وسكناهم هنا، في الصدر. أبكي من رغبتي الى تمسيد وجوههم، هادئة، ملتوية، صابرة، مُعتذرة. عجزهم اليائس امام الجوع. طفولتهم. طفولتهم المتبتلة.
انكم قد تكبرون وتعيشون بين أقرانكم البشر، لكنكم أبداً لن تنجــــــوا، لكنكم أبداً لن تعـــــرفوا شفـــقة العالم ولا حدبه. لن تعرفوا العطف. الحياة تُعطي المزيد من الأشياء لمن يمتلك الأشياء. أنتم لن تُعطوا، لم تُعطوا و لن تُعطوا.
اننا نقوى على النوم في عالم يعجّ بالجوعى. اننا في تكرار لعبة نكران جماعـــــية، مُغنّـــــاة وقاسية. لعبة يتخللها الرثاء أحياناً، مع ذلك ثمة الكثير من الأجزاء الناقصة.
بانتظار أن يحبكم العالم بشكل كامل، كما تحب الغيوم جبلاً، تدور حوله تُسقيه، وأحياناً تُغطيه فلا يعود يُرى بسبب الغيوم، بسبب الحب اذاً، كاملاً غير منقوص، اصعدوا الى السماء، اسألوها عن غيومكم، عن ناس غير هؤلاء، عن أمهات لا تتحطم اثداؤهن أمام لهفتكم، وفكروا أنكم أطفال جميلون، ندف ثلج اسود لا يُبليه الجفاف وانكم آتي الأيام المزدانة بالذهب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى