صفحات ثقافية

صلاحية بلا حدود

null
خيري منصور
ما من قانون في العالم يعاقب مَن يستخدمون أفكاراً أو مفاهيم ونظريات متهمة بانتهاء الصلاحية كما هو الحال مع الأدوية والأغذية المعلبة . وبالطبع لن يكون في أي يوم مثل هذا القانون، ببساطة لأن المفاهيم ليست أسماكاً أو لحوماً أو خضراوات قابلة للتعفن، وهي أيضاً لا تحتاج لبقائها إلى مواد حافظة، فقد تبدو فكرة ما وكأنها غدت من مخلفات التاريخ ومقتنيات المتاحف، لكن سرعان ما يأتي أناس يعيدون إليها الاعتبار، ويقولون إن التطبيق الميداني لها كان قاصراً، لهذا يرى بعض المؤرخين ومنهم وايتهد أن منجزات الاغريق القدماء قبل خمسة وعشرين قرناً منها ما هو باق على قيد الصلاحية، وتذهب السيدة هاملتون وهي من المتحمسين لحضارة اليونان إلى ما هو أبعد فتقول إن البشر لم يضيفوا إلى منجزات الاغريق غير التفاصيل بدءاً من قنوات الري حتى الفلسفة .
ولابد لأية فكرة أو نظرية من اختبار كي تتضح صلاحيتها، والبشر لا يغيّرون مفاهيم التاريخ ومنظومة القيم كالقبعات، إن منها ما هو مستمر منذ بدايات التاريخ لكن من خلال تجليات عديدة، وإذا صح ما يقال عن العلم بأنه تاريخ الأخطاء والمحاولات فإن كل مجالات الحياة الأخرى لا تشذ عن هذا التعريف لأن الحقيقة المطلقة لو امتلكها إمبراطور أو أمة لما استمر التاريخ إلى أيامنا بجدلية دراماتيكية حيث لا يبقى المنتصر منتصراً ولا المهزوم مهزوماً . وغلاة التبشير بالحداثة، الذين يتصورون بأن المعاصرة هي إعلان قطيعة مع الماضي برمته لأن مفاهيمه وأفكاره فقدت صلاحيتها يتناقضون من حيث لا يدرون، فاللغة التي يتكلمون أو يكتبون بها ومجمل ما تمتاز به من جماليات وبلاغة هي منجزات الأسلاف ولم يبتكرها هؤلاء، أو يعثروا عليها كنبتٍ شيطاني في شق صخرة .
إن كثيراً من الأفكار والمفاهيم التي يزعم البعض بأنها فقدت صلاحيتها ويضعونها في سلة واحدة من اللحم والسمك والخضار تدافع عن نفسها يومياً من خلال ما تزخر به من ممكنات لم تتحقق لكنها قابلة لأن تتحقق .
وقدر تعلق هذا بواقعنا العربي فإن إعلان القطيعة مع الماضي لم يثمر حتى الآن غير كيانات تشبه شجرة اللبلاب لا تقوى على الوقوف بمفردها وبلا حائط ترتكز إليه . وعلى سبيل المثال أجهضت لسبب أو لآخر النهضة العربية في القرن التاسع عشر والتي قادها مفكرون إصلاحيون في مقدمتهم عبدالرحمن الكواكبي الذي طورد في منفاه حتى الموت .
إن عوامل تلك النهضة هي ذاتها التي تكتب وتنشر وتبث فضائياً الآن، بدءاً من هاجس الهوية والاستقلال حتى تنقية الوعي من الخرافات، إضافة إلى الدعوة المستمرة إلى إعادة قراءة الموروث وتمحيصه والإفادة من جوهره . وقد يكون كتاباً من طراز طبائع الاستبداد للكواكبي أشمل وأدق من معظم ما يكتب الآن عن الطغيان واحتكار الرأي، وإقصاء الآخر .
فهل فقد كتاب كهذا صلاحيته بعد أكثر من قرن؟ وهل فقدت مقدمة ابن خلدون صلاحيتها بعد قرون من كتابتها رغم أنها تبدو من بعض النواحي وكأنها كتبت هذا اليوم؟
إن الحداثة في بعدها الجدي والأصيل ليست طلاقاً بائناً بينونة كبرى مع منجزات الماضي، وحين يحدث ذلك فإن سببه هو حالة فقدان التوازن، والمراهقة الثقافية وانجذاب المغلوب إلى الغالب كما تنجذب برادة الحديد إلى المغناطيس .
إن بعض ما يقال إنه فقد صلاحيته تمتد صلاحيته إلى ما هو أبعد، شرط أن نجيد قراءته ولا تكون معرفتنا به سياحية أو استشراقية .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى