عملة كثيرة الوجوه
حسام عيتاني
تمر كلمات خطب تلقى في المناسبات من دون أن تثير الاهتمام الذي يتجه عادة الى ما يتعلق بالساري من الحادث. هكذا حال الملاحظة التي أطلقها الرئيس نبيه بري في مهرجان الذكرى الثلاثين لتغييب الإمام موسى الصدر عن أن »اسرائيل والارهاب وجهان لعملة واحدة«، داعيا الى الحذر منهما.
بيد ان الاسئلة سرعان ما تتوالد عن طبيعة العملة التي يشكل الارهاب واسرائيل وجهيها والاسباب التي تجعل من الامرين متلازمين ومعنى كل منهما بالنسبة الى لبنان والى العرب، بل الى العالم اليوم. ربما تكمن مبالغة ما في تحميل جملة اعتراضية أكثر مما تحتمل، إلا ان هذا النوع من الجمل عادة ما يشير في الاسلوب اللبناني من الكلام السياسي الى أبعد ما يستفيض الخطيب في تفصيله وشرحه.
واذا كانت اسرائيل معروفة ككيان وتاريخ وموقع في صراع قاس لم ينته بعد، فإن الارهاب في حاجة الى تعريف دقيق. ولعل الذاكرة لم تمحُ بعد الدعوات الى عقد مؤتمر دولي لتعريف الارهاب وللتأكيد على ان النضال العربي من اجل استعادة الحقوق لا يندرج في خانة الارهاب بل في مجال المقاومة. وفي جدول الثنائيات والمتقابلات الذي يحكم العقل العربي، وضع الارهاب في أسفل السافلين (بغض النظر عن الآية القرآنية التي تدعو الى إرهاب أعداء الله) ونصبت المقاومة قدسا أقدس.
لكن استخدام مصطلح الارهاب يتغير وفق تغير الظروف السياسية. وفي المنطوق اللبناني، تم التواضع على ان يستخدم المصطلح للاشارة الى نشاطات الجماعات الجهادية التكفيرية من طينة »فتح الاسلام« وما شابه. بكلمات أخرى، لا ينطبق تعريف الارهاب في لبنان سوى على فئة ضئيلة الاهمية وان كانت تتمتع بحيوية متزايدة. ومعلوم ان للهيئات والدول الاجنبية آراء أخرى.
واحد من التفسيرات المقترحة لعبارة »اسرائيل والارهاب وجهان لعملة واحدة« يذهب الى صدور اسرائيل والارهاب (وفق المصطلح المذكور) من منبت واحد وازدهارهما في بيئة واحدة هي بيئة العجز العربي عن التصدي لهما معا. رسخت اسرائيل وجودها خصوصا بعد هزيمة العام ١٩٦٧ بسبب غياب القدرة العربية على إنتاج الادوات اللازمة للمواجهة، سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا. وتحولت اسرائيل منذ ذلك الحين الى قوة اقليمية لم يعد من الممكن تجاهلها بحيث تعمل على فرض رؤاها للمنطقة فرضا مباشرا او غير مباشر.
أما »الارهاب« فجاء نتيجة العجز هذا بل بفضله. فاندمج الإخفاق في التصدي للعدو الخارجي بانهيار مشاريع التغيير الداخلية، وأصبح »الشيخ« (وفق الثلاثية التي حددها عبد الله العروي في »الايديولوجية العربية المعاصرة«) هو صاحب الكلمة العليا في مجال تحديد المصلحة العامة في نواحي السياسة والاجتماع، مستفيدا من تراجع الدعوات التحررية والقومية. وصار البديل عن التغيير الداخلي الملح يتمثل في »غزوات« تمتد من مانهاتن الى التباريس.
لعل هذا التفسير عن وجهي العملة التي تشكل الازمة العربية الراهنة لحمتها، يمضي الى أبعد مما أراده خطيب ذكرى تغييب الإمام. لكن القول هذا يبقى ناقصا اذا لم يندرج في سياق أعم يتلخص في ان تركيز السياسات العربية واللبنانية الحالية على معطيات الهوية، أطائفية كانت ام دينية ام عرقية، يعيدنا من حيث نشاء أو نرفض الى اللعب في ملعبي اسرائيل والارهاب، ملعب الامتناع عن تناول الحقائق اللبنانية والعربية كما هي، بكل ما فيها من عفن وأمراض.
فلا اسرائيل نشأت وتكرست ههنا من دون الاستفادة من الاحوال العربية المهترئة على ما تكشفها مذكرات من شاركوا في صنع أحداث حقبة الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي، ولا الارهاب نهض ذلك النهوض المخيف من دون ان تكون الارضية مهيأة وقابلة لتغذية بذرته، بحسب ما يتبين من الاحداث الجارية في أكثر من بلد عربي.
وذا كانت الحقيقة في علة تلازم الارهاب واسرائيل هي ما نبحث عنه، فهي ماثلة في ذلك الجفاء مع العقل ومع شروط التقدم في مجتمعاتنا العربية. غير ان هذا التلازم لا يكفي وحده لتشخيص ما يغذي الارهاب. والحق ان الارهاب واسرائيل وجهان لأزمة كثيرة الوجوه، منها تلك القناعات الساذجة عن إمكان التوصل الى حلول سحرية لمشكلاتنا من دون الاقدام على عمليات جراحية صعبة ومكلفة قد تقتضي التخلص من إرث كبير ومفاهيم راسخة.
لكن من هو القائل بأن العرب واللبنانيين يبحثون عن حلول لأزماتهم الداخلية؟ أليس العدو الخارجي هو المسؤول عن كل معاناتنا؟
السفير