صبحي حديديصفحات سورية

اقتصاد السوق والديمقراطية الغربية: زواج أضداد أم سفاح قربى؟


 

صبحي حديدي

تتداول وسائل الإعلام الفرنسية، هذه الأيام، فضيحة مالية جديدة قد تكون الدولة متورطة فيها، لصالح زمرة من كبار رجال الأعمال، خصوصاً مجموعة ديملر كريزلر ومجموعة لاغاردير (صاحبها أرنو لاغاردير صديق شخصي، معلَن وقديم وراهن، للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي)، فضلاً عن زمرة أخرى من كبار مسؤولي إدارة “الشركة الأوروبية لصناعات الدفاع الجوّي والفضاء” EADS، التي تنتمي إليها مجموعة “أيرباص” ثاني شركة صانعة للطائرات بعد “بوينغ“.

وحتى يتكشف المزيد من تفاصيلها، وريثما يثبت القضاء الفرنسي حدوث التورّط الفعلي أو ينفيه، تقول الفضيحة (التي انطلقت معلوماتها الأولى من صحيفة الـ “فيغارو” الفرنسية اليمنية المقرّبة من أوساط المال وقصر الإليزيه) إنّ هؤلاء السادة كانوا على علم بالمصاعب المالية التي ستواجهها الشركة، فباعوا أسهمهم فيها قبل وقت كاف من هبوطها في البورصة، وهو ما يصنّفه القضاء الفرنسي في خانة “جناية الخبير”. وكانت “سلطة الأسواق المالية”، أي شرطة البورصة في عبارة أخرى، قد حوّلت إلى القضاء مذكّرة دامغة تبرهن أنّ أكثر من 120 خبيراً باعوا أكثر من 10 ملايين سهم، وأوقفوا بالتالي ما قيمته 90 مليون يورو من القيمة المضافة للشركة. ورغم أنّ الدولة لم تبع أياً من أسهمها، فإنّ المعلومات تشير إلى أنّ وزير الإقتصاد الفرنسي آنذاك، تيري بروتون، كان على علم بالمذكّرة في حينه، ولم يتخذ أي إجراء بصددها. فوق هذا، كان قيام الدولة بشراء بعض تلك الأسهم قد مدّ يد العون إلى بائعيها، وليس إلى الشركة ذاتها التي كانت في كلّ حال سائرة نحو مصاعب محتومة.

والحال أنّ الذاكرة الفرنسية لم تطمس، بعد، تلك الوقائع الطازجة التي جرت قبل أسابيع معدودات من انتخابات الرئاسة الفرنسية، حين أدخلت الشركة نفسها ما أسمته برنامج “إصلاح” قضى بتسريح 10 آلاف وظيفة، لكي تتفادى ما قيل إنه نفقات إدارية باهظة. ولم تطمس ما اكتشفه الفرنسيون (بعد أيام قليلة فقط، وفي ذروة التنافس الإنتخابي الرئاسي) من أنّ نويل فورجار، رئيس مجلس الإدارة السابق، قبض تعويضات بقيمة أكثر من ثمانية ملايين يورو حين ترك المنصب! ولهذا فإنّ ما يجري اليوم، وما جرى بالأمس القريب، وربما ما سنشهده غداً أو بعد غد، هنا وهناك في أصقاع العالم الرأسمالي، ليس أكثر من محض فصول جديدة في هذا السفر المتجدد أبداً: عجائب العولمة؟

ليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد تزامن ثلاثة أحداث، لعلّها تلازمت ايضاً فلم تتزامن فقط: اندلاع «حرب الموز» بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وتوسيع عضوية حلف الناتو لكي تشمل ـ للمرّة الأولى التاريخية ـ ثلاث دول من حلف وارسو المنحلّ (غير مأسوف عليه كثيراً، في الواقع)، واضطرار مفوّضي الإتحاد الأوروبي إلى تقديم استقالة جماعية احتجاجاً على نتائج تقرير أقرب إلى «الكتاب الأسود» يتّهم بيروقراطيي بروكسيل بالتقصير والتبذير والمحاباة. العالم الغربي ذاته، المركز الأورو ـ أمريكي ذاته، يتناحر ويتوسّع ويتفكك… في آن معاً. حالة جسم معافى، أم أعراض جسم عليل؟ كلتا الإجابتَيْن واردة، عند الجميع. كلتا الإجابتين صحيحة هنا أو خاطئة هناك، عند الجميع أيضاً، حسب مقتضى الحال دائماً.

حرب الموز جعلت أسبوعية الـ «إيكونوميست»، العليمة ببواطن أمور الحاضر وخفايا المستقبل في كلّ ما يتّصل بالسوق ورأسمالية السوق، تذهب إلى حدّ تصميم غلاف يصوّر معركة كلاب مسعورة أكثر مما يرمز إلى معركة ديمقراطيات حرّة تستشرف مطالع الألفية الثالثة. مراسم الإحتفال بضمّ بولندا وتشيكيا والمجر إلى حلف شمال الأطلسي كانت أقرب إلى مراسم استسلام عسكري بين مهزوم ومنتصر. وأمّا الإستقالة الجماعية لحكماء بروكسيل فإنها لم تكن ممارسة مشرّفة للنقد الذاتي في الهيئة القيادية الأعلى للشطر الأوروبي من العالم الحرّ، بل كانت ليلة الإطاحة بالرؤوس قبل أن يحين قطافها، و«ليلة الخناجر الطويلة» بامتياز.

الأمثلة الأخرى كثيرة وافرة: كيف انقلب السقوط الدراماتيكي المدوّي لرئيس الوزراء التشيكي الشهير الأسبق، فاكلاف كلاوس، إلى ورقة النعي الأحدث عهداً لاقتصاد السوق في طبعته التشيكية بصفة عامة، وفي الطبعة الثاتشرية من فلسفة هذا الاقتصاد في السياسة والمجتمع والأخلاق بصفة خاصة. وكان مما له دلالة خاصة أن السقوط جرى وسط مناخات الفضيحة وفي غمرة «المهانة القاسية التي لا تحفظ للمرء كرامة شخصية، ولا تضع اعتباراً لثماني سنوات من خدمة البلاد» كما عبّر فاكلاف هافل، مستدعياً الجانب التراجيدي من الواقعة، هو الأديب والكاتب المسرحي الذي سيق إلى السياسة في غفلة من الزمن القسري.

بعد هذا الحدث كان العالم قد تابع مهانة من نوع يختلف من حيث الشكل فقط، حين وافقت كوريا الجنوبية على الوصفة العلاجية التي اقترحها صندوق النقد الدولي لما يعانيه الاقتصاد الكوري من أمراض مستعصية عضال. العقار الموصوف (المهين بقدر ما هو تراجيدي) بلغ الرقم القياسي 57 مليار دولار أمريكي، والنطاسيون المتنطحون للعلاج أتخذوا هيئة الـ”كونسورتيوم” العاكف على دراسة جثة تحتضر: صندوق النقد الدولي 20 ملياراً، اليابان 10 مليارات، البنك الدولي 10 مليارات، وما تبقى تقاسمته أطراف مثل البنك الآسيوي للتنمية، الولايات المتحدة، ودول صناعية أخرى ذات مصلحة في حقن الجثة ببعض أسباب البقاء.

وقبل هذين الحدثين شهد العالم بأسره فاصل البكاء التراجيدي لرئيس شركة السندات اليابانية ياماشي، وأدرك الذين ما زالوا قادرين على الدهشة أنّ المؤسسات الرأسمالية العملاقة يمكن أن تكون نموراً من ورق ينقلب زئيرها إلى نحيب، أو قصوراً من كرتون غير مقوّى، قابلة للإنهيار كلّما وحينما ترتفع عنها أيدي صانعيها من الصيارفة والمستثمرين ومالكي الكتل الأساسية من الأسهم.

القاسم المشترك الأوّل في هذه الوقائع الدراماتيكية أنها تصف اعتلال اثنين من أعمدة القيم الرأسمالية في أواخر القرن العشرين: اقتصاد السوق، والديمقراطية البرلمانية (الغربية، حتى في النماذج الآسيوية من تطبيقاتها)، أو «ديمقراطيات السوق» كما يحلو لبعض علماء الاجتماع الأمريكيين أن يقولوا، في اختصار بليغ وطريف. القاسم المشترك الثاني أنّ هذه، وعشرات سواها، تقع بعد سنوات معدودة من إعلان انتصار القِيَم الليبرالية الرأسمالية على ما عداها من قيم وإيديولوجيات: حين لاح، على يد فرنسيس فوكوياما، أن التاريخ انتهى” أو حين بشّر صمويل هتنغتون أن الحضارات هي التي تتصارع بدل المصالح والإيديولوجيات والإثنيات والأقاليم. القاسم المشترك الثالث أنّ هذه الوقائع تستدعي تأمّل الأزمة العميقة المفتوحة، بدل التغنّي المفتوح بأمجادها وانتصاراتها وسرمديتها.

ولعلّنا بحاجة، من جديد، إلى اقتباس الإقتصادي والمفكر الفرنسي جاك أتالي، الذي رأى أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم هي «انهيار» Crash الحضارة الغربية وليس «صراع» Clash الحضارة الغربية مع سواها من الحضارات، غامزاً بذلك من قناة هتنغتون حول صراع الحضارات. وأتالي هذا، كما يعلم الجميع، ليس بالمراقب العادي لمشهد العولمة الراهن، فهو عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، وعرف الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. وهو ثانياً اقتصادي بارز شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي. وهو، ثالثاً، يهودي يراقب العالم بذلك النوع «الحصيف» الحسّاس من حسّ الكارثة وذاكرة الهولوكوست.

وإذْ جادل أتالي بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الإنهيار، فإنه كتب بالحرف: «بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطوّر التقدّم الإنساني، فإنّ هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثمّ الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الإعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإنّ الحضارة الغربية سوف تأخذ في الإنحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها».

كذلك أشار أتالي إلى أنّ الشقوق والصدوع أخذت اليوم تظهر هنا وهناك على سطح الحضارة الغربية، وأنّ تنفيذ أبسط صورة بأشعة X سوف يكشف مظاهر الإعتلال العميق في الجسد ذاته وليس على جلده وقشرته الخارجية فقط، وسوف يحدّد بوضوح صارخ «خطر الفناء» الوشيك الذي تراكمه مظاهر الإعتلال تلك. ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأوّل هو أنّ المبادىء الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب (ونضرب نحن مثالين: فرنسا الرأسمالية العريقة، حيث المكاسب الإجتماعية، وحال النقابات والجمعيات السياسية، وميراث الثورة الفرنسية تعيق انطلاق اقتصاد السوق إلى ما يحتاجه أحياناً من وحشية قصوى عمياء؛ وتشيكيا الرأسمالية الوليدة كمثال ثان حديث العهد، لأسباب تخصّ مركزية اقتصاد الدولة القديم مقابل هشاشة اقتصاد السوق الوليد). التناقض الثاني هو أنّ هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالباً في حال تصارع بدل حال التحالف، وتسيران وجهاً لوجه بدل السير بداً بيد. التناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأنّ ديمقراطية السوق كفيلة بخلق «دكتاتورية السوق» بوصفها عنوان حروب التبادل بين ديمقراطية صناعية كبيرة وأخرى أكبر وثالثة تعدّ نفسها الأكبر.

دلالات الشقوق والصدوع هذه كان قد توقف عندها رجل آخر لا ينطق عن هوى: زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، والصقر العتيق المتشدد الذي تقاعد من الوظيفة ولم يتقاعد عن هوس إحداث صدمات الرعب الستراتيجي عبر المحيط مثلما في أصقاع القارة العجوز أوروبا. ففي كتابه الفريد «الإنفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الحادي والعشرين»، جادل بريجنسكي بأنّ التاريخ لم ينته بعد على طريقة فوكوياما، بل انضغط وتكثّف على طريقة بسمارك؛ وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب، بتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها. في عبارة أخرى، يقول بريجنسكي: نحن اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا ـ بل وشرعنا فعلياً ـ في فهمه، ولسوف سيكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا حين تحلّ ساعة الحقيقة التي نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر!

وهكذا، فإنّ بعض أحكام الديمقراطية الغربية أتاحت لأكثر من 1200 خبير اقتصادي، على صلة بأكبر شركات الطيران الأوروبية، أن يحصلوا على معلومات حاسمة تخصّ أمن الشركة المالي والاقتصادي، من جهة أولى؛ ومن جهة ثانية، كانت بعض قوانين اقتصاد السوق قد أتاحت لهم أن يستثمروا تلك المعلومات على نحو شخصي، وأن يبيعوا أسهمهم بحرّية مذهلة، وبمعزل عن أيّ رادع. صحيح أنّ القانون الفرنسي سوف ينظر في أمر “جناية الخبير” هذه، وقد يفلح او لا يفلح في تاسيس الحقيقة، ولكنّ الجوهريّ في فلسفة العولمة الراهنة سوف يظلّ مراوحاً في مكانه من حيث طرح وإعادة طرح سؤال مكين: أهذا زواج أضداد، بين قوانين اقتصاد السوق وأحكام الديمقراطية الغربية، أم هو… سفاح قربى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى