نمطان من التطور!
ميشيل كيلو
على الجملة، عرفت البشرية نمطين من التقدم والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والعسكري… نمط تمحور أساسا حول السلطة وتم بوسائلها وبما مثلته على الصعيد الاجتماعي، ونمط مقابل ومختلف محوره المجتمع، أي الإنسان، وتم بهذا القدر أو ذاك بجهوده وبما مثله على المستويين المدني والسياسي.
عبر النمط الأول عن نفسه في العالم القديم، عندما كانت المدنية في طور متدن من التقدم، وكانت المجتمعات غير موجودة وغير ممثلة عبر أية هيئة أو مؤسسة، وتألفت من جماعات وتشكيلات ما قبل مجتمعية، ضبطتها السلطة، الشخصية والعسكرية غالبا، وجندتها لخدمة أهداف تتصل بوجود الجماعة، فكان ما تقوم به ضروريا لتقويتها واستمرارها. هذا النمط من السلطة لم ير في رعاياه مواطنين لهم حقوق. بالمقابل، لم ير هؤلاء في حكامهم سلطة تضطهدهم أو تستغلهم، وقامت العلاقات بينهما على معادلة بسيطة: تأخذ السلطة كل ما تحتاج إليه من رعاياها، ويقدم هؤلاء لها كل ما تطلبه باعتبارها المالكة الحقيقية لما في أيديهم، وصاحبة الفضل في وجودهم. في هذا النمط من الوجود السياسي، كانت العلاقة بين السلطة والناس عمودية، ذات اتجاه واحد ينزل من فوق إلى تحت دون حركة معاكسة أو مقابلة تصعد من تحت إلى فوق. وكانت السلطة تتجسد في شخص الحاكم، المعتبر إلها أو شخصا مقدسا، من الواجب إطاعته دون شرط وفي جميع الأحوال والظروف، ما دام كل شيء يرتبط بشخصه، ولا شيء يرتبط بمن هم تحته، بغض النظر عن أسمائهم أو صفاتهم. في هذه الشروط، كان من الطبيعي أن يعمل كل شيء لمجد هذا الإله الأرضي، الذي تجسد في الدولة / السلطة، وكان من الحتمي أن تتجه سائر الأفعال إليه، مباشرة كانت أم غير مباشرة، ليتمكن من قهر أعدائه وإقامة سلطانه، ويتصل بإرادته وجود وكيان الجماعة التي يحكمها.
هذا النمط من الحكم تبدل بمرور الوقت، إلا أن حقبا مختلفة من التاريخ الوسيط والمعاصر عرفت إعادة إنتاج كثير من مفرداته، بل إن نموذجه الأول بعث في بعض الأحيان بتمامه، حتى ليمكن القول إن الستالينية والفاشية والنازية هي تعبيرات عصرية عنه، أعادت إنتاجه في عصرنا، فحملت الكثير من صفاته، كشخصانية السلطة، وعبادة الحاكم، وانعدام المواطنة، وهامشية المجتمع المدني، وإنكار الوجود السياسي للإنسان/ الفرد ولحقوقه، وانعدام القانون، وتفتيت الشعب من خلال التناقضات والصراعات، وإلحاق الدولة بالحاكم، وتجاهل كل ما لا يتصل بمكانة السلطة ويعبر عنها، وتعظيم الفارق بينها وبين المجتمع، بوضع كل ما لديه في خدمتها وحرمانه من كل ما من شأنه تأسيس استقلاليته – النسبية – عنها، مع تجاهل حاجات الفرد والمجتمع تجاهلا تاما، والتركيز الأحادي على حاجة السلطة إلى القوة كأداة تعامل رئيسة أو حتى وحيدة مع الداخل والخارج، يتوقف على نجاحها في تأدية دورها ثراء الحاكمين، وبأس سلطتهم، واستسلام مجتمعهم، فهي سلطة عنيفة الممارسات بالضرورة، تقيس بمعيار القوة – الغاشمة والمنفلتة من عقالها غالبا سلامة تدابيرها وصحة خياراتها، وهي عسكرية الطابع، تجنح نحو السلاح وتتباهى بامتلاكه، لاعتقادها أن دوره حاسم في علاقاتها بداخلها وبالآخرين، مع أنها غالبا ما هلكت بيد أعداء أكثر تسليحا منها، في عالم قام على أخذ الغير بالسيف، وتعيين علاقاته معهم كعلاقات قوة وتنازع وصراع، علاقات وحشية وهمجية توازيها في الداخل علاقات القمع والقسر والإكراه.
هذا النمط من الحكم أخذ غيره بالسيف، فأخذوه بدورهم بالسيف، كما تخبرنا جميع حالات التاريخ: من آشور إلى بابل إلى سومر إلى… فارس وروما… إلى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وصولا إلى أمثلة حديثة كحالة المعسكر المسمى إسرائيل في فلسطين المحتلة، وحالة إيران، التي تصير أكثر فأكثر نموذجية في واقعنا المعاصر، بسبب غرق قسم كبير من قادتها في عشق العنف واعتقادهم أن السلاح هو التعبير الوحيد عن القوة، وأن بلدهم يكون قويا بمقدار ما يمتلك من أسلحة، وأن شعبهم يصلح أكثر ما يصلح وقودا للصراعات والحروب، فلا ضير عليه إن بقي فقيرا ومتأخرا في مجالات وجوده المدنية تنتج إيران بعدد من السكان يوازي عدد سكان تركيا، وبمساحة من الأرض أكبر من مساحة تركيا وأكثر ثراء منها بكثير أقل من نصف الدخل الإجمالي التركي – لأن فقره يزيده عدوانية واستعدادا للقتل والموت. هذا النمط موجود بكثرة في وطننا العربي، حيث يزين الاستبداد للحاكمين وهم السلطة القوية، التي لقوتها معيار هو انفرادها في كل شأن وأمر، وإبعاد مجتمعها عن أية مشاركة في الشأن العام، واستئثارها بالثروة والقوة، وسيطرتها على الإعلام والمعرفة، وجعل كل شيء يتمحور حولها بحجة أنها هي الوطن والدولة والمجتمع والفرد في آن معا، وأن الحرية والكرامة والتنمية والثروة ترتبط بها وتتوقف عليها، وليس لأحد غير الممسك بها أن يعرف أو يسعى إلى معرفة ما تفكر فيه أو تفعله، أو ما يحدث من وله، وليس لها أن تعود إلى أحد غير قائدها في ما تختار وتقرر. ولعله من الجائز القول، في ضوء هذه المواصفات، إنها سلطة الأخطاء القاتلة، والجهود المبددة، والفرص المضيعة، التي تجعل شعب’ها’ يدفع كل مرة غاليا ثمن استبدادها القاتل، وإحجامها عن التعلم من التجارب والوقائع، وعن إدراك حقيقة أنه سيكون هناك دوما من هو أقوى منها، وأكثر سلاحا من جيشها، وأشد عدوانية من قادتها، وأن ممارساتها العنيفة تشجع غيرها على العنف وتعطيه الضوء الأخضر لتدميرها والقضاء عليها، كما حدث في العراق، وكما سيحدث ذات يوم في إيران وبلدان عربية كثيرة.
عرف التاريخ القديم نموذجا مغايرا للنموذج السابق وصفه، تجسد أول ما تجسد في بلاد الإغريق، حيث سادت حياة مدنية حاملها المواطن الحر، القادر على المشاركة في الشأن العام، والمؤهل في الوقت نفسه لقتال أعداء مدينته، أي دولته، والذي تغلب مرتين، رغم عدم التناسب العددي المطلق، على جيوش الفرس وردهم على أعقابهم وألقى بهم خارج موطنه، قبل أن ينتقل إلى غزو العالم بالعقل ثم بالقوة. في هذا النموذج، الذي تبلور وترسخ في العالم الحديث، وخاصة منه أوروبا، خلال حقبة امتدت طيلة الأعوام الألف الأخيرة، المواطن هو أساس السلطة وهدفها، والسلطة سلطات ومؤسسات وليست شخصا أو زمرة، وعمل السلطات عام وعلني، يتعين بدور المواطنين فيه وبرضاهم عنه، فلا انفصال بين المجتمع المدني والسلطة والدولة، بل هي مستويات ثلاثة للوجود السياسي تنجز عملا تكامليا وتفاعليا موحد أو متقارب الممارسات والأهداف والغايات، وهي في خدمة المواطن، الذي ترى في حريته وثرائه قوة وطنه، وتعتبره مصدر أمنه وحمايته، فلا تتطاول على حقوقه، ولا تعتدي على جسده أو ممتلكاته، وتستمد شرعيتها من إرادته، وتعتبره السلاح الأمضى في مواجهة أعدائها، والمؤهل للتضحية في سبيل وطن هو لبنته الأساسية وضامن وجوده.
ليس الحاكم هنا إلها أو شبه إله، إنه تحت القانون ويخضع للمساءلة وللمحاكمة، فليس بين صلاحياته الاستبداد بالرأي، والانفراد بالقرار، واستعمال سلطته ضد من أوكلها إليه: المواطن الحر، وليس له أن يضع نفسه فوق القانون أو أن يعمل من خارجه وضده أو أن يستمد قوته من جهة أخرى غيره، ويتجاهل القضاء أو البرلمان… إنه رجل من عامة الناس، حصل على ثقتهم فوصل إلى السلطة، فإن هو حافظ على ثقة المواطنين وأثبت جدارة مددوا وكالته لهم، وإلا ذهب إلى بيته وفقد منصبه ودوره.
هذا النموذج من الدولة يستحيل الحديث هنا عن سلطة تلغي المجتمع والدولة، كما في النموذج الأول يستمد قوته من وحدة الفرد والمجتمع والسلطة والدولة، والشرعية التي يمنحه إياها المواطنون، ومن ما لديه من قدرات عسكرية وأسلحة. فهو أكثر قوة وقدرة على الاستمرار من دول النموذج الأول، بما أن قوته تعبر عن تضافر ووحدة مصادر وجوده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية، التي لا تستهدف إضعاف المجتمع والإنسان والدولة.
هلكت معظم دول النموذج الأول بالوسيلة التي ظنت أن فيها نجاتها: القوة العسكرية، بينما استمرت وازدهرت معظم دول النموذج الثاني، لأنها عرفت، بعد تجارب ومآس كثيرة، كيف تشد بصورة منسقة ومتوازنة خيوط التطور والتقدم جميعها، وتجعلها تتفاعل بطريقة خلاقة، في الحقول الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.
ليس هناك، في نهاية المطاف، أي نموذج يمكن أن يبقى مستقلا عن هذين النموذجين، وإن كان ثمة نماذج انتقالية بينهما. وقد اختارت نخب عربية كثيرة النموذج الأول، وبددت جهود دولها في الحفاظ عليه، رغم ما سببه من هزائم ونكبات في جميع المجالات. وبما أن هذا النموذج لم ينجح في أي مكان، وبما أنه يجب أن يكون في رؤوسنا بقية من عقل، فإنه يحسن بنا استعادة صوابنا قبل أن يجرنا إلى مصير كمصير قوى كثيرة تبنته فبادت، مع أنها كانت أكبر وأقوى وأكثر ديناميكية بكثير من نماذجه العربية البائسة!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي