دمــشـــــــق كـمـــــــــــــا رأيـتـهــــــا
هيثم مناع
بعد غياب دام خمس سنوات إلا خمسة أيام، وصلت إلى مطار دمشق في زيارة تجمع بين الخاص والعام. في هذا البلد كما في مجاوريه ومشابهيه، الحدود بين الخاص والعام هلامية وأحيانا موقتة. ومن هذا المنطلق التحليلي، ربما يصعب أحيانا رؤية فارق كبير بين الجبهة الوطنية التقدمية (العلمانية) وحركة الإخوان المسلمين (الإسلامية). فالفضاء الخاص يتقلص ويتمدد تبعا للاقتناعات (وليس الضرورات) الأمنية. بحيث يغدو من “حق” جهاز أمن واحد أن ينكد عيش أي مواطن أو محروم من الجنسية، بوضع اسمه على مداخل البلاد ومخارجها. أكان مريضا أو معافى، ناشطا سياسيا أو ابتلته المصادفات بقرابة عائلية مع سياسي غير مرغوب فيه. بتعبير آخر، مدير أي فرع للمخابرات يملك عصمة أي مواطن مثلما يملك الرجل عصمة المرأة في الدولة الوهابية. من هنا تخلق “العلمانية” الحاكمة كل شروط قبول الشمولية الإسلامية. كذلك ينتج الخطاب الوطني السائد العدمية في صفوف قطاعات غير قليلة، ممن همشها القمع واستأصلها تأميم السلطة لكل قطاعات المشاركة مهنية كانت أو عامة.
الاستقواء هو الكلمة المفتاح لفهم عطب الحياة اليومية، أي استقواء الراكب على الماشي والكبير على الصغير والغني على الفقير والأمني على المدني إلخ. الحقد والكيد منغرسان في أوساط اجتماعية واسعة منذ أعاد “تناذر الحريري” الخوف إلى الحياة العامة والفوضى لرؤوس الحاكم والمحكوم. هنا حقد على اللبناني، وهناك كيد ضد السلطة، كره عام لأجهزة الأمن، ومقت للطوائف حينا والطائفية أحيانا. طبعا تختلف المواقف والمواقع باختلاف المتحدث، حزبيا كان أو مستقلا، متعصبا أو معتدلا. لكن رغم كل هذا الضغط والضغط المضاد، ثمة حالة اتزان في طور النشوء عند من نجا من منظومتي الاستبداد والإفقار. سواء باستقلاليته أو بتقاطعاته الموضوعية مع السياسة الرسمية (خاصة في الصداقات والعداوات الإقليمية).
في الوقت عينه، الشفافية غائبة على كل مستويات تراتب السلطان، مجتمعيا كان أو دولانيا. وضعف البناء المدني معشش كالأخطبوط في حياة الحاكم والمحكوم. علاوة على ضعف الثقافة السياسية التي هي قاسم مشترك أعلى. وبالتالي، فالإستقالة المسبقة من المبادرة تنتشر بسذاجة، بحيث لا يتورع البعض عن وصفها بوسيلة نضال سلبي! أما المحظوظ في هذا المجتمع، فهو من ليس لديه معاملة إدارية أو حاجة لترخيص أو ضرورة لمغادرة البلاد أو تغيير الوظيفة. وبالتأكيد ليس له اهتمامات سياسية أو نشاطات مدنية.
خطابه يغدو أجمل إن أنعم الله عليه بميراث عائلي يبعد عنه شبح ارتفاع الأسعار وخوف الفاقة وبعبع الانقسام الطبقي الذي يزداد بشكل متسارع. أما الأكثر وجعا، فهم ضحايا سنوات العنف والعسف. أي الذين اعتقلوا بعد انطلاقة الشرارة الأولى للصراع بين الإخوان المسلمين والسلطة، في نهاية السبعينات، مع ما تبع ذلك. يقول أحد الناجين: “أحيانا أحسد الموتى، هم ذهبوا ونحن نعاني. سبعة عشر عاما في السجن، تسريح من الوظيفة بالقانون 186 وإطلاق سراح عبودي. لا حقوق مدنية ولا عمل ولا تعويضات ولا تقاعد. أنا لست بمعوّق اجتماعي أو صحي. أنا معوّق شمولي”. هذا الظلم المركب يخلق اقتناعاً عند شاهدنا يخرجه من دائرة أية عقلانية ممكنة. وكما يقول هو نفسه: “حتى عندما نسمع بحصول شخص على تعويض أو تساهل مع آخر في التوظيف، لا نرى فرقا كبيرا. لقد تراكم الوجع وأدمن امتهان الحقوق بشكل لا يسمح برؤية التفاصيل الصغيرة. قبل شهر مضى على خروجي من السجن 17 عاما، وفي المحصلة لا أرى فرقاً كبيراً بين سنوات عمري الـ34 الأخيرة”.
المصيبة الأكبر هي أن طغيان التدخل الأمني على تفاصيل الحياة اليومية للناس قد خلق احباطات كارثية عند قطاعات متفاوتة منهم. نسمع منهم من يقول بأن أي تحسن في الأوضاع الداخلية هو بشكل مباشر أو غير مباشر تعزيز لتسلط السلطات. ويعتقد آخرون بأن أي انفتاح خارجي في العلاقات السورية الرسمية سيزيد من استقواء الحاكم على المحكوم. هذه الأطروحة، التي تعتبر تفاقم الأزمات عنصرا من عناصر ابتعاد الناس عن الجبهة الحاكمة، تسود في وسط الضحايا الذين دفعوا الفاتورة الأعلى للديكتاتورية. وهي تعزز طروحات تعتبر الفشل الحكومي على كل الصعد شرطا من شروط التغيير.
في المقابل، ثمة قطاعات مهمة، حتى لا نقول واسعة، بعيدة أو تتعمد الابتعاد عن كل هذا الوسط. فهي تعتبره حقبة ماضية، تتطلب التجاوز في العقلية والتفكير للتمكن من الإنطلاق من جديد نحو أية مشاريع مستقبلية. هناك شبيبة واقعية بدون كثير رومانسيات، تمتلك حسا عمليا عندما تفكر في مهنة الغد، وروحا غير سوداوية حين تفكر في الوطن. إنها تكره وتتجنب كل من يروج لفكرة التدخل الخارجي، أو يشارك فيما تسميه “أبواق 14 آذار”. بل هي تطلق بحقه ألفاظا ونعوتا قاسية جداً. هذه القطاعات تطالب بشكل واضح القيادة السياسية بهوامش مشروعة وقانونية كشرط لعودتها للشأن العام. وفي هذا الصعيد نجدها تتجنب الانتساب للمنظمات السياسية، المسموح بها والممنوع منها. لكنها في الوقت نفسه مدركة لحقها في تجمعات ونواد وهيئات مستقلة علنية بالكامل. وكم تكررت عبارة “نريد العمل بترخيص واضح من أعلى سلطة في البلاد حتى لا نمنع بعد يوم من السفر أو العمل أو التجمع أو النزول للشارع”. يجدر التوضيح هنا أن المقصود بالشارع في هذا المكان بالذات ليس حق التظاهر، بل عدم دخول المعتقلات بدعوى وهن الأمة ونزعات طائفية وهمية أو تنظيم ممنوع.
عندما ندخل في صلب الحديث في التغيير الجذري، تفرمل الغالبية من متحدثينا جموحها بفعل رهاب الأنموذج العراقي البائس. انموذج يتعاطف معه بعض السياسيين الأكراد، كونهم يرون العراق من منظار الوضع في كردستان العراق وحسب. بعض السياسيين المعارضين يتكلمون فيه بلغة كيدية وانتقامية، يلوح منها عطب الذات بداية وقبل استشراف أية دلالة.
في هذا الجو الموبوء، الضحية الأكبر للوضع السائد هي قضية المواطنة. المواطنة كحقوق وواجبات وحريات، وكأول محطم لاستفراد فرد أو جماعة بالقرار، وتأصيل للمشاركة في صنع الحاضر والمستقبل. وأخيرا المواطنة باعتبارها الملجأ الأخلاقي الوحيد عند فساد السياسة، والبوصلة الضرورية لاكتشاف مختلف جوانب الاستعصاء العام السائد. كأن يملأ المرء سطل ماء من وقف سبيل في الشارع، ويترك الصنبورة مفتوحة. أو تملأ زوجة ثري مسابحها بالماء أثناء غيابها في منتجعها الساحلي، لتتأكد من أنها أفضل من ممثلات هوليود. وباختصار، أن يستعمل المخزون الجوفي للمياه بشكل عشوائي يذكر بانتشار البيوت العشوائية التي تستهلك الماء والكهرباء دون حسيب أو رقيب. وبعدما يصل الموظف لإصلاح كسر في قساطل مياه الشرب بعد تشكل بحيرات حوله، يشكو الجميع “ممانعة ومعارضة” من إغلاق مياه الشرب عشرين ساعة في اليوم.
بعد مآس كبيرة وإحباطات وتراجعات أكبر، أصبح الحفاظ على الوطن، وإعادة بناء العلاقات المدنية، واكتشاف المواطنة في دهاليز الممنوع، شروطا لعودة ثقة مفقودة بامكان التعايش بين مختلف مكونات الخريطتين السياسية والمدنية. لكن هذا يتطلب، أولا وقبل كل شيء، تخلّص الأوساط الحاكمة من فكرة أن المعارضة فاشلة وأنها قد انهزمت. فجملة ظواهر التراجع في البلاد تعبير عن مسؤولية جماعية تبدأ في أعلى الهرم وتنتهي في قاعدته. يبقى أجمل ما نلحظ من تقدم ما ابتكرته مبادرات مستقلة عن المجتمع السياسي. فالترجمة الأكثر تعبيرا عن أحلام الشبيبة ليست في برنامج الجبهة الوطنية التقدمية أو جبهة (عدم) الخلاص. ولعل الإحساس الأولي يبقى ضرورة استنهاض مواطنة جديدة مشتركة لكل السوريين، تتنصب شامخة فوق الطوائف والمذاهب والإثنيات والأحزاب، وتمنح بصيص أمل لا بد منه في عالم مضطرب وأوضاع معيشية صعبة جداً.
في المجتمعات التي تعاني من ردود الفعل الكيدية والثأرية على جرائم وقعت وحقوق سلبت ومنظومة فساد استأصلت واستفراد بالقرار وحكر قائم للثروة والثورة، باتت تصفية الحسابات الذاتية تنال مشروعيتها من لا عقلانية التعسف. أما اجتياز الحدود نحو المجهول فهو حلم الكثير من الطاقات الواعدة. ولا يستغرب المرء سيادة حالة القبيلة فيها ملجأ للطاقات الصامدة. في وضع كهذا، نجد ثقافة المواطنة، أي التأمين المجتمعي الوحيد ضد أمراض نقص المناعة الذاتية في أزمة حقيقية. علما بأن إعطاء هذه الثقافة حقها، هو أهم صمام أمن ضد العنف. إن فتح الأبواب لبناء علاقات مدنية اليوم ليس وحسب أداة قيام مجتمع قوي، وإنما أيضا عودة لدولة غيبتها السلطة، ولأحزاب تكلست أو تكاد، ولجمعيات تحتاج للهواء الطلق كي تعبر عن نفسها وعن حاجات الناس بشكل أفضل.
(كاتب سوري مقيم في باريس)
النهار