قصائــد للشــاعر الكنــدي الراحــل آل بــوردي: أنـا خجـل منـك يـا قصائـدي لقـد خنـتِ مبدعـكِ
جاكلين سلام
مؤخراً في هذا الصيف لعام ٢٠٠٨ تم تكريم الشاعر الكندي الراحل »آل بوردي« بنصب تمثال له بالطول الكامل من البرونز الأسود في حديقة »كوينز بارك« التي تنتصب فيها تماثيل للمحاربين والمدافعين عن الوطن، والسياسيين الذي كان لهم بصمة في تاريخ كندا، وذلك في احتفال مهيب حضره كبار الشخصيات الأدبية والسياسية في كندا، وأزاحت أرملة الشاعر الستارة عن التمثال. كما قدم أصدقاء الشاعر كلمات حميمة عنه وعن شعره وعن ذكرياتهم معه، وسط احتفاء كبير من قبل الصحافة المرئية والمسموعة في تورنتو. حفر على قاعدة التمثال جملة »صوت الأرض« ذلك أن شعره يجسد صورة كندا في قلب تفاصيله، ويحتفي ببقاعها وبحيراتها وجميع أشكال الحياة فيها، البائسة والجميلة.
الشاعر »آل بوردي« مواليد أونتاريو(١٩١٨ـ٢٠٠٠). نشر مجموعته الأولى عام ،١٩٤٤ أما مجموعته الثانية فصدرت بعد ذلك بعشر سنوات. وله ٣٣ مجموعة شعرية. حفر مكانته المميزة في قلوب قرائه بأسلوبه وشخصيته الفريدة الفكاهية العصامية. ترك المدرسة حين كان عمره ١٧عاما وندم على ذلك طوال حياته. رافقته المتاعب في بداية حياته وعانى شظف العيش والبحث عن عمل. بنى بيته بيديه على بحيرة أونتاريو، واستمر في الكتابة إلى أن حقق شهرة وأصبح بإمكانه العيش من كتاباته للتلفزيون والراديو والصحف. خلال مسيرته الإبداعية حصد أغلب الجوائز الكندية المرموقة. طبعت له أكثر من مرة مجموعة أعماله المختارة والكاملة وذلك في عام ١٩٨٦ وعام .٢٠٠٠ في هذا الكتاب الصادر عام ٢٠٠٦ تم انتقاء بعض أهم أعماله (٣٥ قصيدة) تحت عنوان »حفظ السراب بسهولة أكبر« لتكون في متناول الطلاب والدارسين. المجموعة مشفوعة بمقدمة نقدية وافية وخاتمة تضيء بعض جوانب حياته وآثاره. كتب آل بوردي المعروف بإدمانه على الشراب في مقدمة إحدى مجموعاته الشعرية »أتخيل لو كنت أسبح وسط البيرة التي شربتها في حياتي كلها، لن يكون باستطاعتي أن أصل إلى الشاطئ أبداً«. ويبدو الشاعر في إحدى هذه القصائد ساخراً من نفسه ومن توقعات الشاعر عن المجد والأبهة التي ستحيط به لمجرد أن يبدأ الكتابة والنشر. ويذكر أن مجموعة قصائد »آل بوردي« الشعرية الأولى كانت »سيئة« ولم تحظ باستحسان أصدقائه الشعراء والنقاد، لكن المجموعة الثانية وما بعدها جاءت مختلفة.
بلا عنوان
أكتبُ لزمن سيأتي
محتضناً الأيام الكثيرة المتشابهة في داخلي
أطوي الأشياء اللامرئية
التي لا أستطيع أن أراها مع أنها تتكدس
سراً في الذهن كما لو أنها لا شيء على الإطلاق
غبار لا يرى
ثم أسأل نفسي: عماذا أتكلم أنا؟
ولا أستطيع الجواب على هذا أيضاً:
طبيعة شيء لا أستطيع وصفه
قياسه، إثباته أو عدم الاعتراف به
لكنّ ثمة شيئا
يحميني من الجنون:
أن رواد الفضاء أخبرونا
عن »ذبدبة« غير قابلة للشرح
عن انحراف الحركة
في مدارات نجوم معينة
تثبت وجود
شيء لا مرئي
نوع من حضور فضائي
يمكن أن يقاس ويعين
هذا وأنهم حاولوا وصفه
حكايتي المتلعثمة هذه
لا علاقة لها بالعلم
عدا أنها تقيم موازاة غير متكافئة:
دمي يفور أحياناً
في أوردته مبحراً
في رحلته الدائرية إلى هنا
حيث لا كائن يرى الروح
ويجعل حضورها معلوماً
وأنا لا أستطيع وصف »ذبذبتها«
عدا الحديث، عن ثمة فتنة
يعرفها قلبي
مشتل أشجار
هؤلاء هم أولادي
هؤلاء هم أحفادي
شعرهم أخضر
عظامهم نبتت من عظامي
عندما يسقط المطر، يشربون السماء
أنا أمهم وجدتهم
أنا ماضيهم
ذاكرتهم هي نمائي منذ آلاف السنين
وانتظاري لهم
أربعة آلاف حلقة مضت
على حساب جسدي
كانت هناك نار
لمستني وتوهجتُ
نار زرقاء من السماء
السماء كانت قريبة جداً
هسهست ومضتْ في داخلي
ثم سقط المطر
ثلاثة آلاف وخمسين حلقة مضت
لم يكن هناك مطر
خلال أزمنة رخاء عدة
ولكن عندما أتيتُ سمعتُ
الغابة تتحدث في ما بينها
كم كان عظيماً الماضي
الذي اندثر، لكنني أتذكر
حيواناً طويل العنق التهمني
ومخلوقا ذا فك ضخم التهمهم
كل شيء التهم كل شيء
واستغرب إن كانت الحياة ـ التهام
ثم أتت الطيور
ولكنْ طيور غريبة كالثديات
بأجنحة عريضة جلدية
كانت تخفق وتصطدم بي
لقد غيرت بقع الأزرق والبرتقالي والأخضر والأصفر
شمس صغيرة تنام فيّ
أتذكر هذا في الحلم
عندما حلمنا كلنا
كما لو أني قصة مكررة
قُصّتْ عليّ وأنا أعيد تلاوتها
والأشجار الصغيرة الخضراء
بذكاء الآن تعشعش في نسق
بعضها يحب الظلال وبعض يحب الشمس
وأخرى تنمو متعرجة
لكنها ستستقيم مع الوقت
بعضها يكبر بسرعة أبطأ من الأخريات
وتلك تنال إعجابي الخاص
الصغيرة منها مختلفة جداً
شعرها الأخضر يلمع
ترفع جسدها عالياً في الضوء
تتهدل في المطر وتنساب في نسق
نحو مكان مفقود تتذكره
لقد أتينا مثل سؤال
كسؤال وجواب
لا أحد يتذكره الآن
لا أحد يستطيع أن يتذكر…
[[[
حية أم لا
إنها مثل حكاية
لأنها تأخذ وقتاً طويلا لتحدث:
بعيداً عن شارع أوتاوا، بمدخل واحد
أرى هذه المرأة على وشك أن تسقط
وتتحطم ببطء
في مقاطع أنتَ تقرأ عنها
وقد يكون أمامي وقت
لأصل إليها
قبل أن يصطدم رأسها بحرف الرصيف
طبعا، إنها زوجتي
أركض بأسرع ما أستطيع
ومن الفزع هناك مقدارٌ ما
يتباطأ الوقت عند حدوث أشياء أخرى
أستطيع تقريباً أن أرى الأزهار وهي تتفتح
فيما أنا أركض باتجاه المرأة
تبدو أنها زوجتي
الأوركيد في الغابات البرازيلية
يكون كفكرة غير قابلة للإثبات
إلى أن يدعس رجل على بتلة نقية
على واحدة منها وينادي »ايريكا« أو أي شيء آخر
وبينما أفكر في هذا
ينتثر جسدها في الشارع
نظارتها تسقط مكسورة إلى جوارها
بصوت موسيقي تحت الشارة الضوئية
وهي ميتة ربما
بالطبع أحتضنها بين ذراعي
دمية خالية من الحياة ربما
بينما شخص لا أعرفه
يطلب التاكسي
فيما العابرون يبحلقون
ماذا يعني هذا بعد سنوات
وعندما أشيخ أكثر وأكثر
هل هذا يعني أنني ما زلتُ أركض نحوها:
المرأة تسقط ببطء جداً
تعطيني وقتاً أكثر وأكثر
كي أصل إليها وأحضنها
وقد تموت في كل مرة إذ تسقط
وقد لا تموت ويستمر هذا إلى الأبد
سوف يستمر أبداً إلى الأبد
وبينما أنا أشيخ أكثر وأكثر
تزداد سرعة خطواتي
كل مرة أركض وأصل
المكان قبل أن تسقط كل مرة
أركض بسرعة جداً كي أوقف ذلك
أركض متجاوزاً والدها وأبعد
كالحكاية تقريباً
كما يموت الأوركيد في الغابة البرازيلية
ومن الفزع هناك مقدارٌ معين.
[[[
في استدراك أنّه كتب بعض القصائد السيئة
أنا خجِلٌ منك
يا قصائدي
أنتِ مدينة لي بأكثر
مما أعطيتني الآن
قصائدي
لقد نسيتِ مهمتكِ
في أن تجعليني مهماً
وظيفتك في هذه الحياة
أن تسيري أمامي
بالناي والطبل وأنغام المزامير
لتشجعي خطوتي العرجاء
قصائدي
واجبك أن تجعلي الناس
تنظر إليك وتلمح بين سطورك
وجهي الملتبس الغامض
الملغز والمهيب والحكيم بالتأكيد
قصائدي
مسؤوليتك أن تكذبي وتضخميني
تدعيني أتشمس بين تثمين ملايين القراء
أو مليون في واحد
وهكذا أتوهج من تقديرهم الشديد المركّز
حيث إنّ تكلس جسدي سيكون سابقاً لموتي
يحول دون استبدال شغفي بحياتي الواقعية
(وهذا الآخر
الجواهري الأحدب الذي في رأسي
جالس في زاوية عظم معتم، يتأمل
لن يصيبه الغرور
لقاء مكافأة كهذه
فهو أيضا لديه طموحات
ـ أخرى مختلفة ـ)
قصائدي
لقد خنتِ مبدعك
سأتخلى عنك أنكركِ أدينك
وما دمت الحياة التي منحتك إياها لا يمكن استعادتها
الحب الذي أغدقته عليك لم ينجب أطفالا
سأتركك عند مزراب تعصف فيه الريح
حتى يسوطك المطر الغزير وحتى يجعل الثلج معناك مشوشاً
تحت حرارة الظهيرة وبرودة الليل في فضاء يؤرجح مركبة شراعية أرضية
وعندما نجمة الصبح
تشرق على القبور
قصائدي، لقد أخفقتِ
لكن عندما تشفى ذاتي من هذه الخيانة
سوف أسير بين التلال مترنماً
وأحتفل بخيبتي
المتحولة إلى شيء آخر
(شاعرة سورية مقيمة في تورنتو)
السفير الثقافي