مستقبل إعلان دمشق اللوحة .. المأزق .. سبيل الخروج
بعيداً عن الدخول في ملابسات اللحظة التي ولد فيها إعلان دمشق والعقلية المستعجلة والاقصائية لأهله؛ فقد صرفنا النظر في حينه عن ذلك بهدف توحيد العمل الوطني المعارض وإيماناً بأن لنا دورٌ سنقوم به امتداداً لبرامجنا ومهامنا السياسية، غايته المساهمة في تصليب وتجذير الخط السياسي الديمقراطي للإعلان ـ رغم أننا نعاني ما نعانيه جراء سنوات الاعتقال والمواجهة ـ وهو ما انصب عليه كامل جهدنا ووقتنا لدرجة التأثير السلبي على درجة ومستوى انجازاتنا الذاتية (الحزبية) والتي ربما تكون أكثر إلحاحاً.
دققنا ملاحظاتنا وتحفظاتنا على الإعلان وعممت على أغلب المهتمين بالمشهد السياسي السوري، وسعينا جاهدين طيلة أشهر عبر الحوار المضني والمتعب وجوبهنا بما لا يليق بالجميع؛ إلا أننا توصلنا عبر الآليات الديمقراطية العلنية والشفافة إلى بيان التوضيحات الشهير والذي شكل نقلة نوعية سياسياً في مسيرة الإعلان، أولاً على صعيد تبيان التناقض الأساسي الخارجي والداخلي مع مشاريع الامبريالية الأمريكية والصهيونية والاستبداد المحلي، وثانياً على صعيد إسكات أصوات المشككين والمتسائلين والناقدين, وثالثاً الوصول لاستقطابات جديدة ما كان لها أن تعمل في الإعلان لو لم يتحقق الموقف من الخطر الأساسي الخارجي (الأمريكي)، والمهمة المركزية واشتقاقاتها, الأمر الذي يعكس الهوية الوطنية الحقيقية والذي ينسجم مع حقيقة الوجدان الشعبي في سوريا.
كنا نلمس وندرك عند كل منعطف, وفي كل حوار ومسعى, كما كنا نقرأ بين السطور وفي اللقاءات وخاصة عبر جريدة (الرأي ) ميلاً بيّناً وظاهراً لقبول الضغوط الأمريكية وتجاهل كل دوافعها وتاريخها الأسود على بلادنا، وتعامياً عن التجربة المحيطة بنا (العراق لبنان فلسطين), حتى وصل الأمر حد التنكر الصريح والمعلن لبيان التوضيحات في العدد 43 من جريدة (الرأي)، حيث قيل بوضوح أنه خطوة للوراء!! والأنكى من ذلك أن كل هذا كان يتم بسكوت أغلب الأطراف في الإعلان وعدم مواجهة هذه العقلية الاستلطافية للأمريكان، وهو ما عبر عن نفسه بعقلية قاصرة في التطورات اللاحقة والاكتفاء بتصاريح جزئية (الموقف من جبهة الخلاص البيانوني ـ خدام)، في حين حددنا موقفنا بشكل واضح وصريح من هذا التحالف في إعلامنا الخاص وعملنا على فضح موقفه وعلاقته التاريخية بالخارج، وبالاستبداد والعنف في سوريا، من خلال كل اللقاءات والمنتديات، وبخاصة في أوروبا، وحتى ذلك لم يرق للنظام فعمل على توقيف رفيقنا فاتح جاموس بمجرد وصوله أرض مطار دمشق! وما زال يخضع لمحاكمات غير عادلة حتى الآن.
ونشير هنا إلى النقاط التالية:
* إن أصحاب العقلية المستعجلة في الإعلان غيبوا الفعل والممارسة السياسية الصحيحة وضيعوا الجهود التي حاولت رسم مسار توافقي وطني ديمقراطي للإعلان، فقد تم حجب مشاريع الوثائق البرنامجية المقدمة من حزب العمل الشيوعي ومنظمات المجتمع المدني في المحافظات ولم يتم تعميمها وقراءتها، لماذا؟؟
* في مطلق لقاءات أطراف الإعلان غاب الحوار السياسي وقطعت الطرق أمام التوصيات الجادة وتم الاكتفاء بالعمل الإجرائي.
* في كثير من المناطق تم ترحيل شخصيات للمجلس الوطني بمعزل عن مبدأ الانتخاب.
* تم الاكتفاء بالعمل وفق واقع عمل المخاتير والمحسوبيات من أعلى إلى أسفل ووفق أطر ضيقة ومعزولة.
إن مجمل التطورات السلبية للوضع السياسي السوري العام والذي يشكل إعلان دمشق جزءاً منه، وكذلك جملة التطورات الاقتصادية، يضع شعبنا موضوعياً بين فكي الاستبداد ووحش الإفقار المطلق، وهو ما يشكل معاناة إضافية تتمثل بعدم المقدرة على المعيشة والقلق على المستقبل، وبالتالي يسهم في ابتعاد الشعب عن الهموم السياسية المجتمعية.
إن كل هذا يؤكد أن حالة عامة من التهدم والإنهاك في شروط الحماية الوطنية والمقاومة, للوطن والمواطن والشعب باتت تشكل معلماً صريحاً في المجتمع السوري، الأمر الذي يوفر شروط انفتاح أبواب الأوطان على مخاطر خارجية وداخلية لن تبقي ولن تذر، ليس أولها اقتصادياً ولن يكون آخرها تهتكاً في النسيج الاجتماعي الوطني، والثقافي أيضاً عبر المحطات الفضائية (الثقافية النيوليبرالية) ودعوات ساستها لاستلطاف الأمريكي القادم! بحيث إن الخطر يستبد بكل حياتنا متجاوزاً كل المكونات الثقافية ليصبح كل شيء مطواعاً لإرادته.
نعود للقول أنه في زمن العولمة المتوحشة هذا لم تعد دعوات الوطنية (الشكلانية) التي تتغنى فقط بأمجادها منسجمة مع مصالح الملايين، حيث اكتفت بالسلطة، واستبدت، وتركت الشعب ضحية للحرمان واليأس، وما انفكت تحتكر الماضي والمستقبل وكل شيء لمصالحها.
لقد نسيت هذه الدعوات المضللة أن معيار الوطنية الأول هي مصلحة أبناء الوطن، حيث القوة بحرية أبناء الشعب، لا بل إن أول معاييرها إنهاء عقوبة السجن لمجرد الرأي، لذلك يصبح القول صحيحاً إن عزة الدولة وقوتها هو من حرية شعبها.
إن حالة الخراب وحالة احتكار الوطنية والعمل السياسي واليأس من سطوة الاستبداد كل هذا يشكل أرضية ويقود البعض إلى منزلقات سياسية خطيرة وهو ما نلاحظه بعد انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق.
نحن بأمس الحاجة الآن لوحدة وطنية تشكل واقعاً حقيقياً وسياجاً منيعاً، لا بقوة الأوامر والنواهي, ولا بقوة وتحبيك الكولسة؛ إنما بسيادة حرية العمل السياسي الحزبي وبإشاعة مناخات طبيعية للحرية، عندئذ لن يقع أحد في متاهات ومخاطر الانزلاق نحو الخطر الخارجي الأمريكي أو غيره.
إن سيادة العنف الرسمي هو مثيل العنف المتقن المستحضر عبر سفارات الخارج وهو الذي سيبتلع وينهي كل وطنية حقة أياً يكن مصدره.
من هنا نجد أن تلاقي العمل الوطني والأخذ بمصالح شعبنا كلها مجتمعة هي الحل للخروج من الأزمات، ومفتاح العملية هو الحريات الأساسية لشعبنا، مما يحتم الأخذ بها في جدول الأولويات، وإن التعامي عن ضرورة إشاعة مناخ الحريات بميثاق وقوانين وطنية سيبقي البلاد على حافة الأخطار والأزمات، وستبقى الاعتقالات طريقاً لتأزيم البلاد و إضعاف الوحدة الوطنية، فالحل لا يكمن هنا، كما لا يكون في استبدال الحرية بالقسر، ولا الاستبداد باستبداد أشد، والعنف بعنف آخر.
لقد بات من الضروري أن يدرك الليبراليون الجدد أن التغيير الوطني الديمقراطي بشكله العلني السلمي الآمن الذي لا يترك مجالاً لأي شكل من إشكال الفراغ الوطني مختلفٌ كل الاختلاف عن الثأر السياسي، فالأول يبني الأوطان لأنه يحقق المواطنة ووحدة المجتمع وشروط المقاومة للأخطار الخارجية وحتى الداخلية حيث هدفه وأدواته الشعب بكليته وكلية مصالحه، في حين أن الثأر السياسي هو قوة تفريق وتمزيق، وقوة عنفية تسعى لاستبدال استبدادٍ بآخر، كمن يبدل قوة الحديد بالمبرد الفولاذي.
إن الليبرالية الجديدة وهي تحاول أن تمتطي صهوة الاقتصاد والسياسة بشكل (ديمقراطي شكلاني) فإنها تسعى للاستحواذ على كامل القرار السياسي وتخضع لأهدافها أنبل وأقدس مفاهيم الحرية والديمقراطية، يسهل عليها ذلك هيمنتها ووفرة رأس المال، لذلك لاغرابة عندما نراها تعمل على تدبير الانتخابات تدبيراً، متجاهلة أبسط مفاهيم الديمقراطية والشفافية، ومتجاهلة أبسط حقوق الآخر.
إنها في بلادنا ليست ثمرة صراع الطبقات أو التنافس الديمقراطي الحقيقي، أو نتيجة موضوعية لتطور المجتمع، باختصار، إنها اختيار القلة واختيار النخبة العائمة على السطح, وهي نخبة تحاول استحضار نماذج غربية بفعل نشاط ذهنها (الفائق الإبداع!!!) نخبة منفصلة وليست متصلة، متناسية ظروف مجتمعاتها وشعوبها والثوابت الديمقراطية الحقيقية، كذلك ثوابتنا الوطنية والاجتماعية التي تتآلف وتنسجم فيها الجماعات دفاعاً عن مصالحها، ولأنها ـ أي الليبرالية الجديدة ـ منفصلة عن عراها نراها تقع في مطب الازدواجية بين الأسس والممارسة، تغيّب الأسس والثوابت الوطنية لتصيد في الممارسة والكواليس، وهو ما يعدم ويقلل فرص ارتباطها بجذورها، فتبتعد عن القاعدة الاجتماعية والسياسية وهوما سيديمها في حالة النخبة ويجعلها في غربة عن المجتمع وعن أوسع القطاعات العاملة في الحقل السياسي، لذلك نجد من البديهي عدم جرأتها على تعميم خطابها السياسي.
إزاء قتامة اللوحة السياسية وإزاء التباين الحاد في عمل الصف المعارض، وإزاء تباين قراءة الأطراف للأخطار المحدقة التي تبدو متناغمة ومتكاتفة أحياناً ومنسجمة ومتشابكة في أحيان أخرى، وقد تكون هذه الأخطار متعارضة جزئياً وثانوياً على هدف أو مصلحة في شروط محددة، هذه الأخطار هي بالضبط: (1ـ الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية وما تحمله من مشاريع عدوانية على المنطقة برمتها، 2ـ الاستبداد المحلي، 3ـ قوى التطرف الديني التكفيري العنفي).
هذه الأخطار الثلاثة يجب النظر إليها بوصفها خطراً واحداً، ووحدة متشابكة أو متكاتفة تقف على النقيض من مصالح شعوب المنطقة تاريخياً، تبعاً لدرجات الصراع, وبالتالي فان أي تغييب أو تقليل من أهمية هذه الأخطار أو أحدها سيضعنا في مواجهة مصالح شعبنا، إن هذا الثالوث الخطر لا بد وأن يتم التنبه له والتعامل مع سلة واحدة في سياق العمل السياسي، وتحديد رؤية وموقف منه, لأنه يشكل خطراً استراتيجياً على مصالح المنطقة.
إن الموقف والبيان الختامي للمجلس الوطني لإعلان دمشق إذ سيطر عليه عقل واتجاه نيوليبرالي قاصر سياسياً, وقع في المطب الحاد في الممارسة عندما غلب خطر على آخر, أو قلل من خطر على حساب آخر، الأمر الذي يشكل وهماً قاتلاً عن دور العامل الخارجي الأمريكي في مسألة التغيير الديمقراطي في سورية.
إن هذا يشكل بالنسبة لنا حداً لايمكن تجاوزه إطلاقاً, لأنه يشكل تفارقاً استراتيجياً لا يخدم الديمقراطية ولا التغيير الوطني الديمقراطي في سورية.
ورغم ذلك نقول مرة أخرى: سنمد أيدينا لأننا كنا ومازلنا في قلب العمل الوطني الديمقراطي المعارض، وسنعمل بعقل مفتوح على ترك باب الحوار المسؤول مفتوحاً مع الجميع للخروج من المأزق الحاد والمفترق السياسي الخطر، أملاً بالوصول مع بقية الأطراف والقوى الوطنية الديمقراطية السورية الحريصة داخل الإعلان، وخارجه بالتأكيد، إلى اللحظة التي يقتنع فيها من يمثل الإعلان ـ حالياً ـ بأهمية وحتمية استبدال وتغيير كامل البيان الختامي للمجلس، والموقف الإشكالي من المخاطر، لكن ليس بعقلية التسوية وإشغال المواقع الشاغرة، إنما بعقلية النقد الذاتي الشجاع للأخطاء.
إننا إذ نتقدم بهذه الملاحظات إضافة إلى (الرسالة المفتوحة) التي وجهناها سابقاً لأمانة إعلان دمشق، والتي التزمنا عدم نشرها حرصاً على العمل الوطني الديمقراطي المعارض، ورغبة منا في عدم تمكين النظام من حجة يستقوي بها، وهي رسالة تم تجاوزها والقفز على الملاحظات التي تضمنتها، فإننا نرى أن هذه المساهمة تشكل جهداً في المخرج الإنقاذي الذي قد يوقف التدهور السياسي والخسائر الجسيمة التي تؤلمنا جميعاً.
الجميع مطالب برؤيته للحل, إذ بغير تجاوز ما هو خاطئ سيكون هناك في العمل المعارض طامةٌ كبرى ومصير أسود لا نرغب به جميعاً، وعلى أعضاء المجلس أن يجيبوا على العديد من المسائل: (*الأخطار المحدقة بمجملها، *الحلفاء والأصدقاء، *المهمة المركزية، اشتقاقاتها وتطوراتها في سياق العمل السياسي، أدواتها، خصومها، *علاقة الداخل بالخارج، *الموقف من الإخوان المسلمين وجبهة الخلاص بيانوني ـ خدام، *الدولة المدنية، *والمكونات السياسية السورية، *علاقة الدين بالسياسية، *وأخيراً التمثيل والانتخاب والآليات والأسس والشروط المتوفرة لعضوية المجلس، وميثاق الالتزام والمسؤولية داخل الإطار وخارجه)، كي لا نقع بإشكال الاتفاق هنا والاختلاف هناك دون ناظم، نصرح بشيء ونناقضه بعد حين أو في ملتقى أخر، كالتجمع الوطني الديمقراطي مثلاً بشكل يتناقض مع أسس واسترتيجية توافقنا الوطني الديمقراطي.
على وعينا وإرادتنا وإخلاصنا تتحدد جملة التطورات اللاحقة، وتبقى شجرة الحياة خضراء دائماً، أما النظرية، فرمادية اللون.
** * **
رفاق هيئة منطقية الوسطى
حزب العمل الشيوعي في سورية