صفحات سورية

القضيَّة الكرديَّة بين المبادئ والمصالح الأوروبيَّة

null

هوشنك أوسي

بالنظر إلى التحوّلات والمتغيرات التي طرأت وتطرأ على الحال الشرق أوسطيَّة خلال الفترة القريبة الماضيَّة، يخلص المرء إلى نتيجة مؤدَّاها: إن الموروث الكولونيالي الإنكليزي ـ الفرنسي، ما زال حاضراً بقوَّة في صياغة وترتيب المعادلات، وتوزيع النفوذ والمصالح في المنطقة. فالمشروع الأمريكي ـ إن جاز التعبير ـ في الشرق الأوسط،
يرتكز على المعطيات الحالية لذلك الموروث. فحين أرادت الولايات المتحدة تغيير النظام العراقي السابق، لم يكن أمامها مفر من التنسيق مع الإنكليز. وبذا، كانت الحرب على النظام العراقي السابق أنكلوأمريكيَّة. وحين أرادت إدارة المحافظين الجدد قطف ثمار خريفها في فلسطين، ومرحلة ما بعد أنابوليس، دعمت تعيين رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير على رأس الرباعيَّة الدوليَّة. وحين تتجه أمريكا نحو مسعى فضِّ الاشتباك الحاصل بين الجارين السوري واللبناني، ابتداء من القرار الأممي 1559، وكل القرارات الدوليَّة ذات الشأن والصلة التي تلته، فيما يتعلَّق بالمحكمة الدوليَّة التي ستنظر في محاكمة قتلة رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، ووقف إطلاق النار في حرب تموز 2006، والأزمة الحكوميَّة وأزمة الرئاسة الأولى وتفاعلاتها لبنانيَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً…، لا مناص أمام واشنطن إلا التنسيق مع باريس. ما يعطي انطباعاً وكأن مناطق تقاسم النفوذ الفرنسي ـ البريطاني، على خلفيَّة (سايكس ـ بيكو)، لا زالت قائمة ومعتمدة، ولا يمكن تخطِّيها من قبل الولايات المتحدة، خلال تعاطيها مع قضايا وأزمات الشرق الأوسط. وتالياً، ليس من المجازفة القول: إن ما سلف، ينسحب على التعاطي الأوروبي ـ الأمريكي مع الملف الكردي، على أن الكرد أيضاً، كانوا ولا زالوا، من ضحايا “سايكس ـ بيكو”، ومفرزاتها الجيوسياسيَّة.

التماس الأوروبي مع الملف الكردي بدأ في الربع الأول من القرن المنصرم، على خلفية تقسيم التركة الجغرافية والبشرية للسلطنة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، بموجب اتفاقية “سايكس ـ بيكو”، كما أسلفنا، والتي قضت بتقسيم كردستان وضمِّ الموصل، وما يعرف حالياً بـ”كردستان العراق” و”كردستان سورية”، إلى فرنسا، وإلحاق معظم “كردستان تركيا” (جنوب وجنوب شرق الأناضول) بروسيا. واحتفظت بريطانيا بالمنطقة الواقعة من جنوب حدود ولاية الموصل إلى الخليج العربي، والأردن وفلسطين. وقد تكون المحطة الأبرز التي وثَّقت التماس الأوروبي مع الأكراد، هي اتفاقية “سيفر” المبرمة قرب باريس عام 1920، والتي أقر الحلفاء في المادة السادسة منها بمنح الكُرد الحكم الذاتي، ونوهت المادة 64 بإمكانية تأسيس دولة كرديَّة مستقلة. غير أن تلك الاتفاقية لم يتمّ تطبيق بنودها المتعلِّقة بحقوق الكرد، التي عطَّلتها معاهدة “لوزان” نهائياً، سنة 1923، حيث لم يرد ذكر المسألة الكرديَّة فيها، خلافاً لـ”سيفر”، وتمَّ الاقتصار على ذكر الحقوق الثقافيَّة والدينيَّة للأقليات، وصار موضوع الكُرد أقل حضوراً. وعليه، توزَّعت الجغرافيا الكرديَّة بين دول أربع، التي تعتبر حدودها السياسيَّة الحالية ذات منشأ استعماري، هي العراق وإيران وتركيا وسورية.

في العراق، انتفض الأكراد على الاستعمار البريطاني بزعامة الشيخ محمود الحفيد سنة 1920، فقصف الإنكليز عاصمته (السليمانية) التي أعلن فيها دولته، وانتهت الثورة بنفيه إلى الهند، بعد تخفيف عقوبة الإعدام عنه. وحين اندلعت حركة 6 مايو/أيار في السليمانية سنة 1930، عاد الحفيد إليها، وتزعَّم مواجهات ضدَّ الإنكليز، استمرت حتى سنة 1931، ثم تمَّ القضاء عليها.

في سورية، سنة 1920، استطاع الزعيم إبراهيم هنانو، ذو الأصول الكرديَّة، وبالاتفاق مع بعض زعماء العشائر الكرديَّة، أن يشكلِّ أربع فرق عسكريَّة، أغلبها من الفلاحين الكرد، وإعلان الثورة على الفرنسيين، وانتهت هذه الثورة بالسحق، بعد رفض هنانو عرض الجنرال “غورو” تشكيل دويلة كردية شمال سورية، شرط أن يلقي السلاح، ويوقف التمرُّد على الفرنسيين. وأتى رفض هنانو لهذا العرض، لترجيحه الكفَّة الوطنيَّة السورية على الكفَّة القوميَّة الكردية.

وفي عز الاضطهاد القومي والسياسي و”الجينوسايد” الذي مارسه النظام العراقي السابق على الأكراد، وقمع النظام الإيراني الـ”الشاهينشاهي” السابق و”الإسلامي” الحالي لأكراد إيران، وسياسة القمع والصهر القومي الذي مارسه النظامان التركي والسوري على الأكراد، إلا أن أوروبا كانت محافظة على علاقاتها السياسيَّة والاقتصاديَّة الوطيدة مع هذه الأنظمة، وكان الصمت الأوروبي على مجزرة “حلبجه” الرهيبة، سنة 1988، واضحاً، حيث اتهمت أوروبا إيران آنذاك بشنِّ الهجوم، لكنها، عادت بعد ذلك بسنوات لاتهام الحكومة العراقيَّة بتدبير المجزرة. ورغم أن إيران اغتالت زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني الدكتور عبد الرحمن قاسملو في العاصمة النمساويَّة فينَّا سنة 1989، واغتالت خلفه الدكتور صادق شرفكندي في برلين سنة 1994، الا ان اوروبا لم تتخذ اي اجراء جدي بحق ايران.

ويعزو الكثير من المهتمّين بالشأن الكردي هذا التخلّي الأوروبي عن الأكراد وقتها، لصالح الأتراك، لأن مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، تبنَّى العلمانيَّة، وألغى الخلافة، وغازل التوجُّه الغربي في أوروبا، ما طمأن الأوروبيين بأن مصالحهم في الشرق الأوسط، التي كانت تهددها الدولة العثمانيَّة، لم تعد في خطر، مع وجود النموذج العلماني في تركيا الحديثة.

ولعل النقطة الأكثر وضوحاً في التعاطي البراغماتي في السياسة الأوروبيَّة حيال الملف الكردي، هي دعمها لتركيا سياسياً ولوجستياً في حربها على أكراد تركيا لأكثر من عقدين. وكشفت بعض التقارير الصحافيَّة مؤخراً، أن ما مجموعه نصف مليار يورو، ذهبت كمساعدات ماليَّة أوروبيَّة، لتطوير الجيش التركي سنة 2007. في حين، تعي الحكومات الأوروبيَّة أن هذه المساعدات ستنهمر على أكراد تركيا قتلاً ودماراً وتشريداً، بفعل الحرب التركيَّة على الأكراد. فضلاً عن كون هذه الحكومات لا تنفكُّ عن انتقاد المؤسسة العسكريَّة التركيَّة، وتدخلاتها في الحياة السياسيَّة، وتقويضها للديموقراطيَّة التركيَّة!.

وعدم منح أوروبا حقّ اللجوء السياسي للزعيم الكردي عبدالله أوجلان، بعد خروجه من دمشق في نهاية 1998، رغم أنه كان متوقَّعاً بأنه سيحكم بالإعدام، وسيتعرَّض للتعذيب، حال وقوعه في يد السلطات التركية، كان مؤشراً دامغاً على انتهاك أوروبا لقيمها ومبادئها لجهة تعزيز مصالحها مع تركيا. ليس هذا وحسب، بل انها شاركت بعض الدول الأوروبيَّة بشكل مباشر في عملية اختطاف أوجلان من نيروبي، وتسليمه لتركيا سنة 1999!.

وما يؤكد التورُّط الأوروبي في مأساة الأكراد، هو قرار المجلس الوزاري الأوروبي الأخير، القاضي بعدم ضرورة إعادة محاكمة أوجلان، منتهكاً بذلك قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبيَّة الصادر في 5/12/2005، الذي نصَّ على ضرورة إعادة المحاكمة، لأن المحاكمة التي أجريت له في جزيرة إمرالي وسط بحر مرمرة، لم تكن عادلة، لانتفاء الشروط القانونيَّة فيها. وعليه، ورغم المبادرات السلمية التي أطلقها أوجلان قبل وبعد اعتقاله، لحل القضيَّة الكرديَّة في تركيا بالسبل الديموقراطيَّة، إلا أن “الديموقراطيَّة” الأوروبيَّة لم تلتفت إليها. ليس هذا وحسب، بل أن أوروبا لم تحركِّ ساكناً، بعد أن كشف محامو أوجلان عن تعرُّضه لحالة تسميم ممنهجة من قبل السلطات التركيَّة في سجنه. فقط بعد مظاهرات واعتصامات كرديَّة لمدة شهور، قررت منظمة مناهضة التعذيب الأوروبيَّة الذهاب إلى سجن أوجلان للكشف عن وضعه الصحي، إلا إنها، وبعض مضي أكثر من 6 أشهر من تلك الزيارة، لم تكشف المنظمة الأوروبيَّة عن فحوى تقاريرها، حتى اللحظة، كي تطمئن الرأي العام الكردي عن الحالة الصحيَّة لأوجلان!. كما أن أوروبا، لازالت صامتة إزاء الاجتياح العسكري الحالي لكردستاني العراق، وبل تدعمه بنحو غير مباشر، خلاف التهديدات التي كانت قد أطلقتها سابقاً، بأن أي غزو لأراضي العراق سيجابه برفض أوروبي، وسيؤثر سلباً على مساعي انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي!.

معلوم أن أوروبا لم تعترف بالفيدراليَّة التي أعلنها الأكراد في العراق من جانب واحد، إلا بعد سقوط النظام السابق، لأنها، وحتى اللحظة الأخيرة، كانت على علاقات مع ذلك النظام التوتاليتاري!. ومعلوم أيضاً أن الأكراد قد استفادوا من هامش الحريَّة في أوروبا التي أمَّنتها لهم القوانين الأوروبيَّة، في تسليط الضوء على ثقافتهم وقضاياهم، بخاصة في الحقل الإعلامي. لكن، رضخ الأوروبيون للضغوط التركيَّة ـ الأمريكيَّة، وقاموا بإغلاق قناتين فضائيَّتين كرديتين (ضش ح وضش ءعح) والثالثة (ضش تدز) على وشك الإغلاق!. ورغم أن الأوروبيين، قد وضعوا منح الأكراد الحقوق الثقافيَّة في تركيا، على لائحة الشروط التي ينبغي على تركيا أن تفي بها، حتى تنال شهادة حسن سلوك أوروبي، لها الحصول على تأشيرة الدخول للاتحاد الأوروبي، إلا أن المصالح الاقتصاديَّة، بقيت هي “بيضة القبَّان” في موازين السياسة الأوروبيَّة، وليس المبادئ والمعايير التي تنادي بها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية..!.

بالنتيجة، أوروبا لا تقوم بما تمليه عليها مبادؤها حيال تخفيف معاناة الأكراد في إيران وتركيا وسورية، ولم تستخدم نفوذها وعلاقاتها لجهة إيجاد حل سلمي عادل للقضية الكرديَّة في هذه البلدان، ورجَّحت كفَّة مصالحها مع النظم الاستبداديَّة الحاكمة في هذه الدول على كفَّة مبادئها!. والسؤال المطروح هنا: هل فعلاً أن الأكراد يدفعون فاتورة القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي “الكردي الأصل”، الذي حال دون الغزو الأوروبي “الصليبي” للشرق الأوسط، حسب ما يتداوله الأكراد فيما بينهم، في تفسريهم لتجاهل أوروبا لمعاناتهم..؟

المستقبل – الاحد 2 آذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى