صفحات سوريةياسين الحاج صالح

سورية بين 1978 و2008: عود على بدء؟

null

ياسين الحاج صالح

عفوياً يميل كاتب هذه السطور إلى إقامة تواز بين السنوات المنقضية من عهد الرئيس بشار الأسد وما يعادلها من سنوات من عهد أبيه الرئيس حافظ الأسد، فيتلامح عام 2008 مثلا من عهد الأسد الابن مناظرا لعام 1978 من عهد الأسد الأب. ولما كنا نعرف ما جرى بعد 1978،
فإن من شأن استحضار وقائعه الأساسية أن يتيح لنا تقدير ما قد يجري في ما يطويه المستقبل عنا. ليس لنا أن نبالغ في قيمة هذا «المنهج»، ولا بالخصوص في موثوقية ما قد نبني عليه من تقديرات، لكن لعله تمرين مفيد رغم ذلك. وهو لا يستمد شرعيته من القرابة البيولوجية بين الرئيسين وحدها، بل يتخطاها إلى القرابة البنيوية بين نظاميهما، أو نظامهما الواحد بصفحتيه. فإن لم يضئ التمرين هذا جوانب من الشأن السوري اليوم، فإنه مناسبة للتأمل والمقارنة على الأقل.

والحال إن 1978 هو العام الذي سبق تفجر أزمة وطنية واجتماعية عميقة أخذت شكلا بالغ العنف، دامت فصوله الدامية ثلاث سنوات، وعقابيله المباشرة نحو عقدين، ولا تزال ملفات كثيرة موروثة منه دون معالجة ودون حل. فهل تسير البلاد اليوم نحو أزمة متفجرة مماثلة؟ وهل ثمة مؤشرات على انزلاق كارثي يحاكي ما خبرنا قبل نحو ثلاثة عقود؟

بداية تتواتر المؤشرات على اندفاع الأمور نحو الطريق المسدود، محليا وإقليميا. فقد بادرت السلطات إلى التصرف بعصبية ظاهرة حيال اجتماع عقده ائتلاف «إعلان دمشق» المعارض في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وتمخض لأول مرة منذ عقود عن قيادة منتخبة. اعتقل خلال الأسابيع العشرة الماضية 13 ناشطا في الإعلان، وكان أوقف عشرات آخرون لوقت قصير في مستهل الحملة. وفي الآونة الأخيرة تواردت أنباء عن اعتقال نشطاء أكراد، بل توفي مؤخرا معتقل كردي بُعيد الإفراج عنه، لأسباب ربما تتصل بإهمال معالجته وقت الاعتقال.

في الوقت عينه تبلغ علاقة سورية بدول عربية رئيسية مثل مصر والسعودية مستوى غير مسبوق منذ ثلاثة عقود على الأقل من الجفاء والتباعد. والراجح أن البلدين لن يحضرا قمة دمشق أواخر هذا الشهر أو سيتمثلان فيها بمستوى متدن. هذا بينما تعود علاقات سورية بالقوى الغربية الرئيسية، وليس أميركا وحدها، إلى البرودة بعد أن كانت دفئت في عام 2007.

بيد أن هذا كله وجه واحد من وجوه التأزم المحتمل في البلاد وحولها. يحيل وجه ثان على المفاعيل الاجتماعية الممكنة لـ»تحرير الاقتصاد». الفقر والبطالة مرشحان للاتساع رغم النمو الاقتصادي (تعطي المصادر الرسمية نسبة6,5 في المئة معدلا للنمو عام 2007)، ومنذ نحو عام ينمو التضخم (تعترف الحكومة بمعدل 8 في المئة لكن مراقبين مستقلين يقدرونه بحدود ضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا الرقم)، وترتفع أسعار السلع الاستهلاكية جميعا، بما فيها المواد الغذائية الأساسية. ويتحدث اقتصاديون عن انحراف متزايد لهيكل توزع الدخل الوطني لمصلحة الأكثر غنى. وقد لا يتعدى اليوم ما يناله العاملون بأجر، ونسبتهم أزيد بقليل من 55 في المئة من مجموع العاملين، نحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما النسبة الموازية في معظم دول العالم بين 65 و70 في المئة حسبما ذكر مرارا إلياس نجمة، الديبلوماسي والاقتصادي البعثي، وبينما كانوا ينالون في سورية ذاتها 43 في المئة من الناتج أيام كان العاملون بأجر 30 في المئة من مجموع العاملين حسب نجمة ذاته في مقالة قديمة له في «الحياة». دلالة ذلك البديهية هي انهيار قيمة العمل (لمصلحة قيم الملكية، أو بالخصوص السلطة)، والاختلال الفاحش لموازين القوى بين الطبقات أو بين مجتمع العمل ومجتمع الثروة والسلطة. وهو اختلال مرشح للتفاقم بفعل تحرير اقتصادي بلا ضوابط اجتماعية، ومع الاستمرار في منع مجتمع العمل من الدفاع عن نفسه بالتنظيم والإضراب والاحتجاج. و»الفساد» الذي أفتى مؤخرا 450 من 452 مشاركا في استفتاء نادر للرأي العام في سورية بتوطنه في إدارات الدولة وأجهزتها، والجهاز القضائي أولا، منفصلا عن انهيار العمل، مردودا ماديا وقيمة أخلاقية ومجتمعا. قد نتذكر، بالمناسبة، أنه شكلت لجنة للتحقيق في الكسب غير المشروع عام 1977، ولم يتمخض عملها عن نتائج أفضل من «مكافحة الفساد» في السنوات الأخيرة.

في الوقت نفسه، يبدو أن آليات صنع القرار السورية تفتقر إلى إجراءات تصحيحية من شأنها أن تخفف انحرافاتها المحتملة، إن على مستوى الاستقطاب الإقليمي المتزايد حدة، أو التذمر الاجتماعي المرشح للتزايد بدوره، أو تشنج الأجواء السياسية الداخلية. بين حين وآخر تعلن جهات حكومية أنها بصدد التعامل مع الحصائل الاجتماعية للبرلة الاقتصاد، بيد أنها إما أنها لا تفعل شيئا أو أن مبادراتها تأتي متأخرة وجزئية، فلا تخلف أي أثر إيجابي.

أما إقليميا فيبدو أن السلطات تتصرف كما لو أنه لا يمكن فعل شيء أبدا غير تعزيز الروابط القائمة مع كل من إيران وحزب الله وحماس. والحال إن تضييق الخيارات على هذا النحو يتعرض للانتقاد حتى من منحازين إلى هذا المحور.

فإذا أضفنا لهذا كله أزمات النظام الشرق أوسطي الدورية التي تتكرر كل عقد من السنين أو نحوه منذ ستين عاما، كان مباحا لنا أن نتوجس مما قد يواجه البلاد في السنوات القليلة القادمة. إن التقاء هذه العوامل أو بعضها ربما يتسبب في تفجير أزمة خطيرة جدا، قد تذكر السوريين بما عرفه بلدهم قبل ثلاثين عاما. ونفترض أن عملية صنع القرار السياسي في أي بلد معنية باستباق احتمالات كهذه، وتكثير الخيارات والبدائل الممكنة.

وبينما لا تنحصر منابع التأزم في الداخل لسوري، الاجتماعي والسياسي، وبينما لا ريب في كثافة حضور وفاعلية العامل الدولي والإقليمي في مشكلات بلداننا، وسورية منها بالطبع، فإن من يحتل موقع المبادرة لتجنب الأزمات أو لمعالجتها باكرا هو طاقم السلطة في البلاد. فهو يستأثر لنفسه بسلطة غير مقيدة داخليا، وما من قوة أخرى في البلاد تشغل موقعا منافسا له للتأثير على وجهة تطور البلاد وتجنيبها مخاطر تواجه بلدان العالم جميعا ودوما مثلها. فلا عذر له في انزلاق البلاد نحو الأزمة مرة أخرى. أما التعويل على انتهاء ولاية بوش، فليس جديرا بأن يسمى سياسة، ومن غير المرجح لثمرته أن تكون أفضل من ثمرة حلول ساركوزي محل شيراك في الإليزيه. ولا من احتفال صدام حسين ذات يوم بفوز كلينتون على بوش الأب.

على أن النظام مقيد فعلا، لكن بمصالح مطلقة نمت في كنفه، ولا يبدو قادرا أو راغبا في لجمها. وطوال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية تكشفت سورية دولة قوية في مواجهة ضعفائها الاجتماعيين والسياسيين، بقدر ما هي ضعيفة في مواجهة أقويائها الذين يريدون كل شيء لأنفسهم مقابل لا شيء لغيرهم. هذه قسمة ضيزى و… نصيب أضيز.

وهي بعد مصدر الانفصال عن الواقع وباب الأزمات الأخطر. فمن يريد كل شيء طوال الوقت معرض لفقدان كل شيء ونهائيا.

خاص – صفحات سورية –


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى