صفحات مختارة

الدعوة إلى الحرية تستبق الحاجة لتحليل مفهومها؟

عمر كوش
يعود المؤلف في هذا الكتاب إلى ما قبل مرحلة خمسينيات القرن الماضي، التي مثلت الزمن التأسيسي لما يعتبره زمن الشرعيات الثورية، الانقلابية العسكرية والفلاحية الشعبوية. أي أنه يعود إلى زمن الشرعيات الدستورية المدنية الليبرالية، الممثلة للنصف الأول من القرن العشرين، التي لم تر البطولة سوى في قدرة العقل على تعقل ذاته في نواميس الطبيعة والمجتمع والحياة، من خلال ثقة لا نهائية بأن الحقيقة تكمن في الصيرورة ذاتها، التي تتمثل في حركية الزمن الحديث، وليس في النماذج الثابتة التي تجعل الماضي والمستقبل متزامنين في لحظة الحاضر.
ويعزو المؤلف عودته إلى تلك الفترة إلى التوقف عند المثقف العربي الأول، الذي اكتشف تعريف المثقف الحديث بوصفه مثقف مجتمع “ماجد”، وليس مثقف سلطان “متمجد”، ليتمثله فكراً وممارسةً، وهو الكواكبي الذي وجه أول صفعة للطغيان والاستبداد عربياً، بعد أن اكتشف وكشف أن الطغيان سر انحطاط الأمم، لأنه يشلّ عقل الدولة والمجتمع من خلال تعالق وتشارط الاستبدادين السياسي والديني. ثم ينتقل إلى ما يسميه معركة الهدم التي قام بها جورج طرابيشي في القسم الثاني من القرن العشرين، من خلال تناوله لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي يصفه بأنه ينصّب التراث “أباً عقلانياً” تتوجب استشارته في كل خطوة، حيث الأموات يمسكون بتلابيب الأحياء حيثما تولوا، فكانت أولى نصائح “الأب التراثي” للجابري هو التخلي عن العلمانية، أي الانقلاب على كل نتائج الهدم التي بلغها معول الإمام محمد عبده والكواكبي وطه حسين وعلي عبد الرزاق وأحمد أمين لمنظومة العقل النقلي، بل والنكوص عن كل حفريات الهدم التي أنجزها جيل النهضة والتنوير العربي الليبرالي.
ويتطرق المؤلف إلى تجربة هادي العلوي العراقي، بوصفه صاحب أول محاولة رائدة في مجال “روحنة الإسلام” تصوفياً، بما فيه روحنة المجال السياسي كرد ثقافي، تراثي وحضاري ومدني على العنف الأبوي الطغياني الذي حكم الممارسة السياسية العربية. وكأن العلوي كان يستشعر بحدوسه الصوفية حالة الرعب الذي سيسكن في مفاصل العراق، ويعصف به مع طوفان العنف والإرهاب الهمجي اليوم. كما يتطرق إلى التاريخانية العربية المعاصرة، بوصفها بحثاً في الحرية وبوابة ولوج الأمم إلى التاريخ، وذلك لهدم النظرية التقليدية القائمة على نظرة التبجيل والأمثلة للمتخيل الثقافي عن تاريخ الأنا الحضارية للأمة. وقد جرى التعبير عن ذلك من خلال البحث عن سيرورة حركة الوعي التاريخاني العربي عبر الكشف عن دور أولئك الرواد المتنورين المشاكسين لنظام ثوابت الأب الثقافي والسياسي. ونقطة الانطلاق في كل ذلك هي حقوق الإنسان، والنظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، من خلال عرض ما قدمه هشام شرابي، الذي يعتبر أول من اتخذ من بوابة النظام الأبوي مدخلاً للإطلال على حطام الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي القائم.
ويرى المؤلف أن الترسيمة النظرية لبنية الدولة السياسية الوطنية والقومية، هي الدولة الدستورية، هذه الدولة هي التي تؤطر كل الممارسة النظرية ليس للريحاني فحسب، بل ولفكر عصر النهضة بكامله بدءاً من التأسيس لها في برنامج الحزب الوطني المصري (1882) الذي وضعه الإمام محمد عبده وصولاً لحركة الضباط الأحرار التي دشنت الزمن الانقلابي العسكري الريفي على الدولة الليبرالية العربية، ليس في مصر فحسب، بل وفي العالم العربي.
ومنذ العقد الأخير في تسعينيات القرن العشرين بدأت لحظة الاستفاقة الدستورية، وذلك بعد خمسين سنة من النظام الشمولي الشعبوي العربي الرث الذي انقلب عسكرياً على النظام الديمقراطي الليبرالي الدستوري في مصر وبلاد الشام، حيث سيعاد، منذ تسعينات القرن الماضي، الاعتبار إلى نموذج الدولة الدستورية الديمقراطية التي أسس لها عصر النهضة العربي والريحاني أحد القامات الشاهقة لهذا العصر التنويري المدحور. وتبدو العناصر التكوينية لبنية الدولة الدستورية الديمقراطية تتنفس في كل النصوص التي كتبها الريحاني منذ اليفاع حتى الكهولة، وتتكرر تلك العناصر كلازمة في حديثه عن الدولة الوطنية عندما يكون نموذجه لبنان وسوريا، لكنها تخفت عندما يتحدث عن المشروع القومي العربي، وذلك عندما يفكر بحضور الجزيرة العربية داخل هذا المشروع.
والترسيمة تبدأ بالفرد بوصفه ذاتاً عاقلة حرة مستقلة، أي بوصف هذا الفرد قادراً على الولاية على نفسه، وذلك هو أس المشروع الديمقراطي في الغرب حيث الأمم لا تتقدم إلا بتقدم أفرادها، وأن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر يصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان الحرية: حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل. وأول أسباب التقدم في الأمم الحرية الاجتماعية والسياسية والدينية. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليهم الدفاع عنها يوم يحاول الظالمون قتلها.
ويقرر المؤلف أن الفكر العربي تعرّف على الليبرالية في صيغتين أبرزتا درجة الثقل النوعي لكلتا المنظومتين المحلية والكونية، حيث تمثلت في سبيلين: سبيل “المصالحة” بين الدين والعصر، الماضي والحاضر (الطهطاوي ـ الأفغاني ـ محمد عبده ـ الكواكبي)، وسبيل الليبرالية، “الأمثولة” العصرية التي ترى في الغرب صانعاً لتاريخ العصر، فهو المثال والنموذج للتقدم، (أحمد لطفي السيد ـ طه حسين ـ علي عبد الرزاق ـ محمد حسين هيكل…إلخ).
إذاً، كانت ليبرالية النهضويين الأوائل تستدعيها حاجات مجتمع يتطلع إلى الخروج من أقماط عصر طويل من الانحطاط، كالاستبداد والجهل والخرافة والتزمت وإلغاء الفرد…الخ، إلا أنها كانت ليبرالية واسعة فضفاضة، تتعامل مع مفهوم الحرية كدعوة، كحاجة، كضرورة كلية، تستدعيها كلية واقع اجتماعي ثقافي فقدها منذ زمن طويل. لذا كانت الحرية برنامجاً مطلبياً، وليست منهجاً نظرياً. وكان المجتمع الإسلامي في حاجة إلى نشر دعوة الحرية أكثر مما كان في حاجة إلى تحليل مفهومها”.
وهكذا، فإن تحول الحرية إلى شعار يخترق الخطاب النهضوي الليبرالي العربي، لا يعدّ نقلاً خارجياً غريباً عن الواقع العربي، بل إن الليبرالي العربي أكثر حماساً للحرية من الليبرالي الأوروبي الذي حقق مجتمعه الكثير من مكتسباتها. وعلى هذا “كانت خصوصية الليبرالي العربي أنه يعبد الحرية باندفاع لم يحس به زميله الأوروبي”، والسبب في ذلك “هو حالة مجتمعه الذي لم تتحقق فيه أية صورة من صور الحرية”. والليبرالية في السياق النهضوي العربي، حسبما درسها عبد الله العروي، هي تجسيد موضوعي عقلاني لمستوى التطور التاريخي الذي حققه المجتمع ولمستوى وعيه التاريخي بهذا التطور، أو بمعنى أدق استجابة لما لم يحققه المجتمع بعد، وهذا يعني بلغة ياسين الحافظ أن الليبرالية في الزمن النهضوي أنتجت وعياً تاريخانياً كونياً مطابقاً لحاجات المجتمع العربي وهو يلتمس طريقه باتجاه التقدم والتحديث.
ويعتبر المؤلف أن الليبرالية انطوت عبر حضورها في الخطاب العربي على المستويات الثلاثة التي يتحقق بها الوعي المطابق للمجتمع العربي: الوعي الحديث، الوعي الكوني، الوعي التاريخي، حيث يتبدى البعد التاريخي، في هذا السياق، ليس من خلال استجابة هذا الوعي لزمنه التاريخي فحسب، بل من خلال مزيتين تميز بهما المؤلفون العرب الليبراليون. تتجسد الأولى في الدفاع عن الحرية ضد الخصوم الداخليين من خلال المشترك الثقافي الإسلامي، حيث راحوا يثبتون أن الدعوة إلى الحرية هي من صميم الإسلام، وأن كل ما يناهض الحرية في الحياة الإسلامية فهو ليس من الإسلام الحقيقي، فيما تتجسد الثانية في إرادة تأصيل الحرية في عمق المجتمع والتاريخ الإسلاميين. وكان يتقرأها في الزمن الإسلامي القديم، من خلال اعتبار أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح وأبو ذر بطل الديمقراطية والاشتراكية..الخ.

الكتاب: هدم الهدم ـ إدارة الظهر للأدب السياسي والثقافي والتراثي
تأليف: عبد الرزاق عيد
الناشر: دار الطليعة، بيروت، 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى