صفحات الناس

حين يؤسس العراقيون مدنهم في سورية؟!!

null
أيمن الشوفي
كان عليه أن يحسب قيمة حياته هنا، وما يعنيه انتظار(الغرين غارد) قبل أن يفكّر بالعودة إلى بغداد. لقد وظّف أغلب ما أحضره من مالٍ في (ميني ماركت) مع شريكٍ سوريّ.
لم تعد الهويّة شيئاً يعنيه، ولا الغربة أيضاً. منذ عامٍ ونصف وهو ينتظر أن تتصل به السفارة الامريكية وتقبل أن ينتقل بحياته كاملةً إلى أرضها، بلا طائل.
قبل أن يأتي للإقامة في سوريا كان قد خسر مكتبته في بغداد وعمله كمهندس إنشاءات لا زال ذاك الزمن يطلُّ على أبي يحيى كأنه يجرّبه أو يمتحنه في الذي هو فيه.
فكّر مراراً بالعودة مع أسرته إلى بغداد . يقول : ” الموصلات إلى العراق مجانية إن كان الشخص راغباً في العودة النهائية، ثم تقدم الحكومة له مبلغ 700 دولار كمعونة .لقد تضاعفت الأجور في العراق الآن، وهبطت قيمة الفوائد على القروض… لكني لست جاداً في العودة ”
إذاً تبدو الحكومة العراقية جادةً في أن تعيد أكبر عددٍ ممكن من رعاياها الذين هجّرتهم آلة الحرب والمليشيات في اقتتالاتها الداخلية ، ويبدو أن أغلب العراقيين الذين أصبحوا سوريين مع الزمن غير جادين في العودة إلى أرضهم … رغم (جدية ) الحكومة في ذلك.
وليس صائباً بأي حال اعتبار العراقيين القاطنين في سورية (لاجئيين)،لقد ثبّتوا مع مرور السنوات حياةً متماسكة لهم في سورية ،تشبههم بالقدر المناسب لأن يمكثوا هنا وإلى الأبد.
مطاعمهم انتقلت إلى حيث يقطنون ( الكص ،المرق بالتمن ) ومعها توابلهم ( الكاهي، الطرشي ) وأفران خبزهم ( الصمون الحجري ) ولهجاتهم، وذكرياتهم التي لم تعد تعنيهم بشيء.
يتذكر لؤي كيف كانوا يضعون ( أبرة الرسيرفر ) في خزان الماء حين كان استقبال القنوات الفضائية محظوراً في العراق يتذكر أيضاً كيف فرَّ أخوه من الجيش أيام حرب الخليج الأولى ثم فرَّ إلى الخارج وضفر باللجوء إلى استراليا.
الآن تنتظر عائلة لؤي (لمَّ الشمل) مع ابنهم وهذا حسب قانون الهجرة الاسترالي يستغرق زمناً تمضيه العائلة هنا ،تصير عائلةً سورية إلى حين.
يعمل لؤي وأخواه في مهنة الدهان ، فالحولات الشهرية التي يرسل بها أخوهم من “سدني ” ليست بالكافية . يعملون إذاً مثل عراقيين كثر دخلوا سوق العمل السورية وغيّروا من لهجتهم العراقية مستفيدين من كون سوق العمل في سورية ليس منظماً بعد، لا حاجة لأي أوراقٍ ثبوتيّةٍ حال ممارسة المهنة كالدهان مثلاً.
يعمل العرقيون في سورية كالسوريين ويدفعون بأولادهم إلى المدارس الحكومية ،لم يعودوا لاجئين إذاً لقد تقاسموا مع السوريين كل شيء: مقاعد السرافيس، ومقاعد الدراسة . الخضار والفاكهة، والمازوت المدعوم سابقاً والسكن. ثم لاحقاً انتقاد الحكومة السورية . ينتقد العراقيون وعلى الملأ – مثل السوريين -انقطاع الكهرباء في الظهيرة، وشوارع جرمانا غير المعبدة بعد، انقطاع المياه في شهر آب، لقد صاروا سوريين إلى هذا الحد.سوريين فقط.
وتمتعض ناديا من فكرة العودة،هي على أي حال غير مهددة بالقتل في بغداد لم تهرب إذاً من ألعاب الموت والمليشيات لكنها جاءت سورية كما اعتاد العراقيون أن يفعلوا. تقول ” لا أقوى على العودة ، ولا رغبة لي في ذلك . هناك سيحبسني أخوتي في البيت ” لم تكمل ناديا دراستها،وهي الآن تعمل في ” عصرونية ” تعود ملكيتها إلى سوريٍّ وشريكٍ عراقي.
العراقيون صار لهم أملاكٌ في سورية قبل أن يصدر قانون تملك الأجانب بكثير يلجؤون إلى تثبيت حقهم في ملكية العقارات أو سواها بتسجيلها لدى كاتب العدل.
في جرمانا يبدو خليط العراقيين مع السوريين قابلاً للفرز. إذ يميل معظم الشباب العراقيين إلى تقفّي تسريحات الشعر الحديثة، وكذلك الملابس. يرتادون مقاهي الانترنت لساعاتٍ طويلة، يجرون ( التشات ) مع أقاربهم في أوروبا أو حتى في العراق، قصص حب تبدأ وتنتهي ” رقمياً ” ، صفقاتٌ تجارية، ومشاريع سفرٍ وهجرة .
آخرون يرتادون النوادي الرياضية ويلتزمون برامجاً غذائيةً طويلة الأجل تبرز عضلاتهم بعد أشهرٍ ليعرضوها في مشياتهم المسائية. يرتادون مسابح الغوطة أيام الجمعة والأحد. لتبدو حياتهم في سورية مختلفة التوصيف كلياً عما يوحي به مصطلح اللاجئ .
أبو لبنة كان يواضب على أن يحظى بمعونات الكنيسة الدورية قبل أن تتوقف هذه الأخيرة عن دفعها (300 ل.س لكل فرد شهرياً ) يقول: ” لكن معونات الأمم المتحدة تتأخر كثيراً ثم تأتي في نهاية الأمر وتشمل الزيت والسمنة والمنظفات والحبوب مثل الرز والعدس ” ولمرةٍ واحدة يحظى كل فرد عراقي بغطاءٍ صوفي . أغلب العراقيين لا يحتاجون مثل هذه المعونات لكنهم لا يمانعون من استلامها.
على الأرض لا تبدو التعليمات الخاصة بدخول العراقيين دقيقة التنفيذ تلك القاضية بالسماح للتجار والطلاب فقط دخول الأراضي سورية.
في الشارع يمكن التعرف استشفاف عقم تلك التعليمات . متسولون عراقييون كثر باتوا يتقاسمون أمكنةً مع الأرصفة، بعضهم يعلّق علم العراق ليدل على شخصيته ،وبعضهم تفضحه لهجته العراقية حين يطلب المعونة.
ملابسٌ رثّة وملاءات سود مغبرة، كعوب أقدامٍ متشققة ، وعيونٌ توقفت عن نهش المكان حين اعتادت عليه، ثيابٌ أنيقة وماركات سيارات غالية الثمن، بعضها يحمل لوحةً عراقية وبعضها يحمل لوحةً سورية. خليط بشرٍ عراقيين غير متجانس كل ما يجمعه فقط الرغبة في البقاء.
أجساد عراقياتٍ كثيرات صار وقوداً تحرقه ليالي الشقق المفروشة والمحروسة في آنٍ أو تفترشه طاولات الملاهي الليلية الرخيصة، أجسادٌ تحصي الكؤوس الفارغة والساعات الباردة حتى الصباح .
مقلقٌ ما يؤول إليه هذا ( التخالط ) لجهة التغير الديموغرافي. دقيقٌ أكثر أن يكون بؤس السوريين لا يقبل القسمة إلا على السوريين أنفسهم، ومثله إحساسهم المرير بإفلاسهم الدائم وانتظارهم بعض الّلقى في المجهول ، ولأن كل ما يملكه السوريون ضيقٌ عليهم… كهربائهم ضيقة… مياههم ضيقة… (سرافيسهم) الصغيرة ضيقة …وسبل صرفهم الصحي ضيقة أيضا..ً. كل ما لديهم ضاق عليهم، ومع ذلك صار للعراقيين مدنهم في سورية، وصار يتوجب علينا الرحيل.
داماس بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى