باي باي أميركا
عناية جابر
لم يكن منظري لطيفاً بالمرّة، وأنا أغادر أميركا حافية القدمين. دخلتها وخرجت منها »حافية مكشوفة الرأس«، على ما يقول المثل الشعبي عندنا. عند نقطة التفتيش، خلعت حذائي وسترتي و»الكاسكيت«، بحسب أوامر رجل الأمن الأميركي، وعبرت
الحاجز على أطراف أصابعي فبدا الأمر تسللاً، لا دخولاً ولا خروجاً، على غرار خلق الله العابرين في مطارات العالم أجمع.
رغبت في أن يعفيني، الرجل الأشقر المفتول العضلات من خلع حذائي، كي لا يبدو قُصري »المتوسطي« باهظاً أمام طول الأجنبيات العابرات مثلي، فالكل هنا، عند نقطة التفتيش، عرباً وغير عرب، سواسية في »الخلع« وفي المشي حفاة، عراة الرؤوس.
عزّت عليّ نفسي وأنا أعبر مرتجفة من القهر، ومن البرد الذي ترسله مكيفات المطار الشرسة على بدني المحروم من سترة تدثّره وتُعينه على مثل هذه اللفحات الثلجية، فحساسيتي فاحشة حيال ما ترسله الأجهزة، برودة وسخونة على السواء.
تقدّمت مجتازة الحاجز، كما لو على وشك تقديم وصلة رقص شرقي على الأصول. تذكرّت لبرهة الراقصة الراحلة سامية جمال ولقبها »حافية القدمين«، سوى أن السمراء الجميلة كانت ترقص بمزاجها، وتخلع بمزاجها، وتعبر إلى القلوب المتلّهفة الى رقصها على رؤوس أصابع قلّ نظير فتنتها ورشاقتها.
المهّم، عبرت بمزاج أو من دونه، غير أن صفيراً حاداً مع ذلك، انطلق من جهاز الإنذار، ما استدعى انتباه كل من كانوا في المطار لأجد نفسي مُحاطة بالعيون المُحدقة من عرب وهندوس واسبان وطليان، كما لو عثروا فجأة على ابنة لادن جديدة.
طلب إليّ الأشقر الوسيم، أعني رجل الأمن، معاودة العبور ثانية، ففعلت وسط ارتباكي الذي زاد من شعوري بالبرد. لعلع الصفير أقوى من المرة الأولى، أو هكذا خُيّل إليّ بينما كل من بالمطار يتفرّج على الـ»شو« الذي يجري أمامه. سألني رجل الأمن أخيراً خلع حزامي الملتفّ حول خصري، وكان تنقّلي في أرجاء أميركا الواسعة، عبر طيرانها الداخلي، مع قلة النوم وعدم الرغبة في الأكل، زادا من هُزالي، فلم يبق لي سوى الحزام أُحكمه على خصري، لئلا يقع البنطلون على الأرض.
قلت لرجل الأمن الوسيم اللئيم إن بنطلوني يفيض على خصري، فعاود سؤالي سحب الحزام من شروشه، مرفقاً بابتسامة خفيفة. كنت أعرف أن بنطلوني من دون الحزام يُنذر بوصلة من نوع آخر غير محمودة العواقب. سحبت الحزام مع ذلك، وتمسّكت ببنطلوني كآخر رجاء عندي، وعبرت آمنة مطمئنة من دون صفير ولا تزمير. باي باي أميركا.
السفير