سَلَمية… حيث الصحراء والمدينة
عمر حبيب
تدورُ وتدور، كأنما أهلُ المدينة أَوْكَلوا إليها السهرَ على راحة الضيوف. تُجبرك على إبقاء رأسك مرفوعاً بفعل مزيج من الدهشة والحسد. إسماعيل صديقُ صديقٍ، استضافنا في منزله في «سَلَمية» حيث الطيور تعيش مع الناس، أو فوقهم، ثم تنزل لتعشّش في مدخنةٍ أو ثقب في الجدار. لا يطلقون النار عليها، لا يخرّبون أعشاشها، وعند الحاجة، يأخذون العشّ ويضعونه، آمناً، في مكان آخر.
سَلَمية تقع على بُعد 30 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة حماه. هي على تخومِ باديةِ الشام، يصلها نسيم البحر، عبر فتحة حمص في جبال لبنان، محمّلاً ببخار الماء، فيسقطُ المطر على تخوم الصحراء، وتخضرّ «سَلَمية». كانت سَلَمية مقرّ أئمة الطائفة الإسماعيلية، غادر منهم عبيد الله المهدي المدينة ليؤسس الدولة الفاطمية. 90% من أهلها اليوم من الإسماعيليين: مثقّفون، يساريون، قوميون اجتماعيون…
من البترون انطلقنا إلى طرابلس، حيث حاول الصرّاف أن يسرقنا، ثم إلى حمص، والسائق سوري يمتدح بعض شخصياتنا السياسية.
في الأراضي السورية تختفي حفر الطريق، ونصل سريعاً إلى حمص، حيث يقلّنا الباص إلى «سلمية».
تسعون ألف دراجة نارية في مدينة من مئة وخمسين ألف نسمة. الجميع يجيد القيادة. شخص واحد، شخصان، ثلاثة، عائلة من أربعة أشخاص، مهما يكن العدد، يمتطون الدراجة النارية. يمتطون!.. طبعاً، فالصحراء وراء الباب، وإن كان السهل أخضر. صديقُ صديقي، صديقي. هكذا يُصرّون في «سلمية». أهلاً بأهل بيروت. أنت هناك «من بيروت»، ولو كنت من شمال لبنان أو من جنوبه. الغداء عندي، يحسم محيي الدين، أنجيلا بانتظاركم. والعشاء عند رياض، ورَوْعة بانتظارنا. روعة! ضيافة أهل الصحراء وأطباق أهل الأراضي المزروعة!
صَدَق محمد الماغوط؛ لكلّ مصباحٍ فراشة ولكلّ خروفٍ جرس ولكلّ عجوزٍ موقدٌ وعباءة. الأغنام هنا، والمرعى هنا، واللحم طيّب ورخيص. والخسّ هنا، يؤكل نيئاً أو مطبوخاً أو مكبوساً، ورخيصاً. لكنه في أيّ حال لا يعرف طعم المبيدات. و«معجوقة» لحم غنم وبصل على رغيف من العجين، لا نتركها تنضج كثيراً. وهي طبق إلزامي، ولو كان الطبق الأساسي دجاجاً أو حبوباً أو حتى لحماً. وجبات الطعام هي دائماً على بساط يوضع أرضاً، ولو في منزل عصري، أثاثه محفورٌ ومذهّب. تجلس وظهرك إلى الكنبة الفاخرة… الصحراء والمدينة!
تدخل المنزل بعد أن تتخلى عن حذائك خارجاً؛ يستقبلك الجميع حفاة. تغامر وتترك نعليك، فتكتشف الأرض من جديد، على حقيقتها. أو تكتشف قدميك.
في قلب المدينة، وراء الأبواب الخارجية، روضة صغيرة تستقبلك قبل أن يَفتح لك المنزل أبوابه. تنسى أن الزفت في الجهة الثانية. فلّ وياسمين، عناقيد تتدلى ونبات يتسلق، وبركة ماء تلطّف الجوّ. واحات صغيرة تتوسط المنازل الدافئة. وعلي يشرح كيف يعتني بجنته الصغيرة، وظبية تضيف بعض التفاصيل وتلتقط الصور. ظبية! كيف عرف أهلها مُسبقاً أن عينيها ستكونان واسعتين؟!
الناس في سلمية يعشقون الطرب الأصيل. حفظوا أغاني أم كلثوم وعبد الوهّاب وعبد الحليم وفريد، وخصوصاً فيروز… إسماعيل يعزف على العود، روعة تغنّي… يرافقها الحاضرون. وقد أهدانا الأصدقاء في سلمية قرصاً مدمجاً يحتوي على أعمال فيروز كاملة، وآخر على أغاني وليد كنعان. كسر جورج نظارتيه. جلس عليهما وهو يسترسل في تقويم أوضاع العالم العربي عن حدود البادية. بسيطة. ساعة واحدة، وكان لجورج نظارتان جديدتان؛ نوعية أفضل، ماركة معروفة، وبربع كلفة النظارات عندنا. قيمة مضافة لا ضريبة عليها. السوق في سلمية مزيج من أسواق طرابلس وأسواق بيروت القديمة وأسواق صيدا، لكنها ليست هذه ولا تلك. أسواق أخرى، وأسعار أخرى؛ تطمئن إلى أن الأسعار مراقبة.
ثم تخرج من قلب المدينة، فتفاجئك الصحراء. هي ليست تلك الصحراء القاحلة التي تعرفها من الصور والأفلام، صحراء يتسلل إليها الأخضر ويحتلّ فيها مواقع كبيرة، فتُرابط فيها الخراف مطمئنة تحت الشمس. في الشمال الغربي، وعلى بعد خمسة كيلومترات، قلعة «الشميميس» التي بناها أحد أمراء حمص بداية العهد الروماني، ثم هدمها المغول. تطلّ القلعة على الجهات الأربع، وترصد الصحراء على مدى دائرة يتخطى قطرها 50 كيلومتراً. صحراء ساقطة عسكرياً.
منذ الطفولة وأنا أحلم بقيادة دراجة نارية، لكنني لم أحاول يوماً. وبدأتُ هناك، في الصحراء، على الطريق إلى القلعة. هاجمتُها مراراً، الغارة تلو الغارة؛ لم أستطع احتلالها، ولكنْ في المقابل، حققت أحد أحلامي المتواضعة. من أبناء سلمية، محمد الماغوط. منزله لا يزال هناك، رمّمه ابن عمه عهد، بطلب منه، لكنّ محمداً هزم المرض والسعال، وغادر قبل أن يراه، «بلا أمل، وبقلبي الذي يخفق كوردةٍ حمراءَ صغيرة…» ودّع أشياءه الحزينة، ورحل بعيداً.
وعهدٌ هذا فنان، يرسم بالنار على الخشب. يرسمكَ مع أدق تفاصيل ابتسامك أو عبوسك، يصوّر، بالنار، ثنية جناح الطائر. «أترسمُ وجه حبيبتي يولا؟» سأله موريس. «أرسل لي صورتها عبر الإنترنت».
في الباحة الصغيرة، في بيت إسماعيل، كانت الأجساد على احتكاك دائم بالأرض التي كانت يوماً رمال الصحراء. سقطت الحواجز جميعها: ثلاثة لبنانيين لا يغنّون عادةً راحوا يزايدون على أم كلثوم. مساحة مقفلة، إلا لناحية السماء، أسوارها جدران من الإسمنت، صارت واحة من الحرية. أَلَيسَ المدى خلف الجدران؟
وفي طريق الإياب، عرفنا أن كل واحد منا ترك شيئاً من ذاته هناك، ذريعةً، لكي يعود يوماً.
أطفال بعدد الغيوم
(…)
ولكنّها لا تعرفُ الجوعَ أبداً / لأن أطفالَها بِعَدَدِ غيومِها / لكلّ مصباحٍ فراشة
ولكلّ خروفٍ جرس / ولكلّ عجوزٍ موقدٌ وعباءة / ولكنها حزينةٌ أبداً
لأنّ طيورَها بلا مأوى
(…)
(محمد الماغوط)