الوقائع الفنتازية لمصرع سوزان تميم
أمجد ناصر
بدأت رواية ‘مئة عام من العزلة’ لغابرييل غارسيا ماركيز بذكرى شاحبة لمجزرة عمال الموز في منطقة الكاريبي الكولومبية. لم يعرف أحد، قط، عدد العمال المنتفضين الذين حصدتهم رشاشات حماة ‘اليانكي’ في تلك المنطقة الحارة المغبرة من بلاد ماركيز. البعض يقول ثلاثين عاملا، آخرون يقولون خمسين، لكن المجزرة لا تكون مجزرة، في العالم الثالث، بهذين الرقمين ‘المتواضعين’ فرفع الروائي ذو المخيلة الجامحة عددهم الى ثلاثة آلاف. العدد ليس مهما. فالجريمة ليست بعدد الضحايا بل في الفعلة نفسها: القتل.
من مجزرة منسية لعمال شركات الموز الامريكية في كولومبيا ولدت واحدة من أشهر روايات عصرنا. بدت الرواية لقرائها الغربيين فنتازيا، تعزيما سحريا لشعوب لا يعرفون عنها الكثير. ومنها، على الأغلب، ولد مصطلح ‘الواقعية السحرية’ الذي جمع في اطاره تيارا كاملا من الكتابة الروائية الامريكية اللاتينية. حوَّل ذلك التيار الأدبي وقائع محلية صرفة، بقوة المخيلة الروائية، الى أحداث عالمية. قرى نائية صغيرة مغبرة وكالحة صارت أشهر من نار على علم. أجداد مغمورون صاروا أبطالا عماليين. اداريون ورأسماليون وضباط محليون بائسون صاروا نموذجا للفساد والعسف والديكتاتورية. بهذا المعنى صارت الرواية الامريكية اللاتينية ‘ديوان’ تلك القارة ومدونة حياتها العريضة حتى يصح القول إننا ما كنا لنعرف أمريكا اللاتينية، التي تكالبت عليها قوى السيطرة الخارجية والفساد المحلي، لولا رواياتها.
ماركيز من أكثر الكتاب العالميين تحدثا للصحافة. هو أصلا صحافي. كثير من احاديثه الصحافية أعطيت من قبيل التعاطف مع أبناء المهنة كما يقول. وقد كشف، في أكثر من حديث، عن الجذور الواقعية لـ ‘سحرية’ رواياته، فبدت تلك الجذور أكثر تواضعا وأقل إثارة مما هي عليه في رواياته. وبالمقارنة مع فنتازيا الحياة العربية، فسادها العميم، طغاتها وطُغمها الحاكمة، توحش المال المنهوب، تبدو فنتازيا أمريكا اللاتينية مجرد حبوٍ طفوليٍّ. ولكن حياتنا الفنتازية التي تتحكم بها الطُغم العائلية، خصوصا تلك التي تحكم تحت جناحي نسر الجهمورية الهرم، لم تنتج شيئا يشبه ما انتجته امريكا اللاتينية من أعمال روائية او شعرية تحولت الى نماذج عالمية. فما مجزرة عمال شركات الموز أمام مجازرنا التي لا تحصى؟ ما ديكتاتور ماركيز ‘الغلبان’ أمام خريف ديكتاتوريينا الطويل؟ ما احتضار حياة القرى المعزولة النائية أمام احتضار عواصم بأكملها تحت فوهات مدافع الرؤساء الملكيين؟ ما فساد شركات الموز الامريكية وتحكمها أمام فساد وتحكم سدنة نصف احتياطي العالم من البترول؟
صفر، تقريبا.
وإليكم نموذجا صغيرا عن ذلك يتصدر، هذه الأيام، صحافتنا العربية.
لم يتوقع منتجو الدراما التلفزيونية الذين يتصارعون على الأوقات الكئيبة لسواد الجمهور في رمضان ان مسلسلا من دراما الواقع العربي سينافس أعمالهم ويبزها. فقد كشف مصرع المغنية اللبنانية سوزان تميم عن مسلسل ذي حبكة بوليسية تعجز مخيلات كتاب السيناريو العرب عن صوغها: مال وجمال وعالم ليليٌّ وغيرة قاتلة وتعدد أزواج وألغاز ودوافع غامضة وحزب سياسي حاكم وموت طعنا بالسكاكين! هل هناك بين مسلسلات رمضان التي تعيد انتاج أزمنة الصحراء الآفلة وصراعات قبائلها التي أصبحت أثرا بعد عين، أو تجتر مواضعات الحارة الدمشقية بقبضاياتها وحريمها على نحو نوستالجي مرضيٍّ ما يبز تلك الدراما الحقيقية التي ينتجها واقع عربي أشد فنتازيا من الفنتازيا نفسها؟
بدأت قضية سوزان تميم على نحو مبهم في الصحافة المصرية. تصدى القضاء سريعا لحرية النشر. وكان يمكن أن تنتهي مثلما انتهى من قبل الموت الملتبس للمغنية التونسية ‘ذكرى’. أي ‘لفلفة’ الموضوع برمته قبل أن يتحول الى وجع رأس للقضاء وللسلطة التنفذية في مصر. وهذا ما حدث فعلا. لكن مقتل سوزان تميم على أرض غير مصرية وفي بلد لا سلطة فيه لرجال الأعمال المتوحشين على الحياة العامة هو الذي جعل مقتل المغنية اللبنانية يتحول إلى قضية ومن ثم إلى دراما تتوالى فصولا. فمن سوء حظ ‘امبراطور العقارات’ ان الجريمة لم تقع في مصر بل في دبي. لولا ذلك ما عرفنا، ربما، كيف حدثت تلك الجريمة البشعة. فلا مصلحة لدبي في ‘لفلفة’ الموضوع. بل من مصلحتها، وهي الامارة التي يعتبر أمن سكانها وزوارها رأس مالها الحقيقي، الكشف سريعا عن هوية القاتل.
لكن مقتل سوزان تميم كان مخططا له أن يحصل قبل ذهاب المغنية اللبنانية الى دبي. في لندن تحديدا. ولم ينقص الصحافة المصرية، التي رفع عنها حظر النشر في قضية سوزان، وجود أرشيف كامل من القتل الغامض حصل بـ ‘القفز من الشرفة’ في لندن. سريعا تذكرت الصحافة المصرية مقتل الفريق الليثي ناصف وسعاد حسني وأشرف مروان. ثلاث حوادث موت مصرية متتالية وقعت في لندن وكلها بـ ‘القفز’ من الشرفة، وثمة من يقول إن خطة قتل سوزان في لندن، التي لم تنجح، كانت معدة بالطريقة نفسها. فهذه، على ما يبدو، الطريقة المفضلة لموت المصريين، أو من له علاقة بهم، في الخارج.
ومن القاهرة الى لندن تتشكف الفصول الدرامية لمسلسل سوزان تميم. فلم تعد الصحافة العربية وحدها التي انشغلت صفحاتها الأولى بالفصول المثيرة للجريمة بل انتقلت ‘حمى’ سوزان الى الصحافة البريطانية. لم تكن سوزان مطلقة عندما وقعت الجريمة بل متزوجة، على ما يبدو، من ملاكم عراقي! هذا أحدث فصل من فصول الجريمة المتعاقبة تكشفه، هذه المرة، صحيفة ‘الصنداي تايمز’ البريطانية. واضح من خلال المقابلة مع الملاكم العراقي رياض العزاوي الذي ادعى انه زوج سوزان تميم ان المغنية اللبنانية أبلغت الشرطة البريطانية مرارا خلال اقامتها في لندن عن تهديدات القتل التي تلقتها. ولكن واضح أيضا أن شرطة لندن لم تفعل شيئا يذكر لحمايتها. إن فكرة ‘زواجها’ من ‘ملاكم’، في نظري، هو دليل على حاجة المذكورة (التي جاءت شهرتها السريعة من دراما موتها وليس من خلال غنائها) الى الحماية. واضح جدا انها كانت في أمسّ الحاجة لمن يحميها. لهذا تزوجت، إن صحت ادعاءات العزاوي، من ملاكم. فإن لم تستطع ‘اسكوتلند يارد’ حمايتها فقد تفعل عضلات العزاوي! ‘الاوبزيرفر’ صحيفة الأحد الشهيرة في لندن خاضت في قضية سوزان ولكن تحت العنوان الفاضح في صحته: تداخل المال الفاسد بالسياسة الفاسدة. فلعلها المرة الاولى في تاريخ مصر يحدث فيها هذا التداخل المريب بين قوة المال وقوة السلطة، بحيث تحول ‘رجال الأعمال’ الى شريحة حاكمة بكل معنى الكلمة. لا يكفي، طبعا، الكشف عن صلة ‘امبراطور العقارات’ في مصر (رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى المصري ورجل لجنة السياسات في الحزب الحاكم التي يرأسها جمال مبارك) بمقتل سوزان تميم للقول إن الرجل سيلقى عقابا على جريمته، إن صحت علاقته بها، فهناك سوابق برأ فيها القضاء المصري، في صورته الحالية وتحت تأثير السلطة، رجال أعمال ارتكبوا جرائم أفدح من مقتل المغنية اللبنانية. فلنتذكر فقط تبرئة صاحب ‘عبارة السلام’ من دم مئات المصريين الذين قضوا غرقا والصاق التهمة بالربان.
هذه عينة صغيرة، شبه يومية لحياة العرب اليوم. وما يحدث في مصر يحدث في غيرها من بلاد عرب بوش حيث يتحالف الفساد الحكومي بالفساد المالي، الديكتاتورية بأباطرة العقارات والحديد والدم الملوث، الطغم العائلية بالمحافظين الجدد والليبراليين الكاذبين، لانتاج حياة عربية فنتازية، تحت نظر وسمع الديمقراطيات الغربية المتيمة بحقوق الانسان.
القدس العربي