الجريمة والرمز
الياس خوري
جاء في تقرير النيابة العامة المصرية حول مقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم في 28 تموز الماضي، في دبي، ان تحقيقاتها انتهت الى اتهام كل من محسن منير حمدي السكري وهشام طلعت مصطفى ابرهيم بالجريمة. في التفاصيل ان “ضابط المباحث السابق محسن السكري قام وبتكليف من رجل الاعمال هشام طلعت مصطفى برصد المجني عليها في لندن، وتتبعها الى دبي. ثم نجح في خداعها والدخول الى منزلها حيث انهال عليها ضربا بالسكين محدثا إصابات شلّت مقاومتها وقام بذبحها قاطعا الأوعية الدموية الرئيسية والقصبة الهوائية والمريء مما اودى بحياتها”.
جريمة كلاسيكية، ملياردير مصري وفنانة لبنانية، وقاتل محترف نال مليوني دولار كي ينفذ جريمته. اذا اضفنا الى الحكاية معلومات عن فتاة لبنانية من عائلة متوسطة تقفز الى الشهرة من طريق “ستوديو الفن”، ومعلومات اخرى عن “رجل عصامي”، صار واحدا من اصحاب المليارات في زمن صعود رجال الأعمال في عهد مبارك الطويل، ووصل الى عضوية مجلس الشورى، وصار من دائرة الوارث جمال مبارك ووالدته السيدة سوزان، نكون امام حبكة تصلح لكتابة رواية بوليسية، يمتزج فيها المال والشهوة والسلطة، وتتخذ من ارض الابراج والعجائب في دبي مكانا لها. قصة تحتاج الى سلاسة اسلوب احسان عبد القدوس، كي تكتمل عناصرها الميلودرامية.
لكننا لسنا مع الأسف امام هذا النوع من الروايات.
حين نجمع ما تيسر من معلومات عن الضحية، نكتشف اننا امام حكاية صعود لم يكتمل وأمام سقوط دموي. تقول الحكاية ان سوزان تميم، الآتية من عائلة بيروتية، عاشت طفولة مضطربة، بسبب طلاق والديها، درست في ثانوية فخر الدين الرسمية، تزوجت للمرة الأولى من احد زملائها في الجامعة، شاركت في “ستوديو الفن” على قناة “ال بي سي”، فازت بالمرتبة الأولى عن الأغنية الطربية الشعبية، وانفتحت امامها ابواب الشهرة. هربت من زوجها الأول، وفي باريس التقت زوجها الثاني، الذي كان يدير مربعا ليليا. امرأة شابة وجميلة وذات صوت متميز، كانت تمتلك كل اسباب النجاح. لكن المشاكل كانت في انتظارها. ساءت علاقتها بزوجها الجديد، اختفت من عالم الفن، قيل انها وقّعت عقدا احتكاريا مع الزوج الذي منعها من الغناء. طلّقت واختفت، ليكتشف اصدقاؤها انها في مصر، تعيش في احد فنادق النجوم السبع. قالت انها تعيش في الحلال. وفهم بعد ذلك ان الرجل ملياردير مصري يملك اكبر شركة عقارية في مصر، ويقال ان ثروته تتجاوز ثلاثة مليارات دولار. وكان الحلال على الطريقة المصرية، زواجا عرفيا.
لكن عناصر الحكاية لم تكتمل الا بجريمة وحشية، لا نعلم حتى الآن اسبابها الحقيقية. كتبت الصحف كثيرا عن فساد الطبقة المصرية الجديدة، وعن نظام وحوش المال والسلطة في مصر المحروسة. وذكّرت بجريمة رجل الأعمال ايمن السويدي الذي قتل زوجته الفنانة التونسية ذكرى، قبل ان ينتحر، بعدما قتل ايضا شخصين آخرين. غير ان هذه المعلومات العامة لا تفيدنا في شيء، اذ ان قرار الاتهام لا يسمّي طبقة، إنما يسمّي رجلا محددا، هو هشام طلعت مصطفى، الذي يرأس مجلس ادارة مجموعة طلعت مصطفى، وهي شركة عقارية عملاقة بنت “مدينة الرحاب”، وتملك مشاريع “مدينتي” و”الربوة” و”ماي فير”. يلقّب الرجل في مصر بملك العقارات، وهو ملك حقيقي، وقيل انه ارتبط بسوزان تميم بعلاقة او بزواج عرفي، لكن العلاقة انقطعت او انتهت منذ ثلاثة اعوام. فلماذا يقتل رجل صديقته السابقة، وهل تتوقف المسألة عند حدود الجانب العاطفي، ام انها تحمل جوانب اخرى خفية، ام ان الرجل ذهب ضحية صراع حيتان السياسة والمال في النظام الموميائي المصري؟
لكن الحكاية لم تتوقف هنا، اذ يقال ان الفنانة اللبنانية اقامت علاقة مع ملاكم من اصل عراقي في لندن. هل انتهت علاقتها بالملاكم كي تذهب لتعيش في دبي؟ ولماذا دبي؟ هل صحيح ان الملياردير المصري اشترى لها شقة باذخة هناك؟ ام انها اختارت الامارة الصاعدة من اجل الفن؟
نحن امام حال من العتمة الشديدة. الجميع يثني على القضاء المصري الذي سجن احد المقرّبين من الوارث، ولكن هل يذهب القضاء الى النهاية؟ ام ان ألاعيب النظام الامني سوف تتدخل في اللحظة الأخيرة، من اجل انقاذ ملك العقارات؟
يقال، والله اعلم، ان القاتل المحترف سقط في مصيدة الكاميرات الموجودة في كل مكان في الامارة الخليجية، وانه في غمرة انفعاله الاجرامي فقد السيطرة وسقط في فخ احدى الكاميرات. المسألة ان امارة تريد ان تكون منتجعا ومركزا ماليا ومكان ترفيه لرجال الاعمال، من الهند الى المغرب، لا تستطيع التسامح في جريمة ذبح حصلت على اراضيها، وان انكشاف القاتل، واعترافاته، وضعت السلطة المصرية امام الذي لا بدّ منه.
كل هذه العناصر، حتى ما غمض منها واستتر، تستحق ان تكون ميدانا لتحقيق صحافي كبير، او ارضية لرواية بوليسية. لكن الصحافة العربية، وخصوصا في مصر والخليج، لم تتعامل مع المسألة على هذا النحو، إنما قذفت بها فورا الى دلالاتها السياسية والرمزية، وجعلتها مادة لادانة نظام “رجال الاعمال”، الذي يستشري في مصر، جالباً معه الفساد والدعارة. اي تمّ حذف العناصر الشخصية، والدوافع المباشرة للجريمة، والوصول بها مباشرة الى استنتاجات عامة والى اطار مجازي يعبّر عن المأزق الانحطاطي الذي يعيشه العالم العربي.
قد نذهب في استنتاجنا المجازي الى ابعد من ذلك. الجريمة ثلاثية، مصري يقتل لبنانية في دبي! مركزا النهضة العربية في بدايات القرن الماضي، يلتقيان في صورة رمزية في “مدن الملح”، حيث يمتزج الملح بالدم، والشهوة بالجريمة. الصورة التي يصنعها الاعلام للبنان هي صورة الفنانات، وما يستتبعها. اما مصر فقد لخصها جمال مبارك بغيلان رجال الاعمال. صورتان نمطيتان، تعبّران عن عجز المجتمع عن انتاج صور اخرى لنفسه. لبنان غارق في انقساماته الأهلية وفي انهيار طبقته الوسطى، ومصر تحت قبضة فرعنة الأمن والمال. الصورتان النمطيتان تلتقيان في مكان هو اشبه بالاستعارة. هناك يتزلجون على ثلج اصطناعي، ويقيمون اعلى ناطحة سحاب في العالم، ولا يدرون ماذا يفعلون بعائدات النفط التي ارتفعت اسعارها في شكل فلكي. بدأوا باستيراد عارضات الأزياء من لبنان، وانتهوا الى ما انتهوا اليه. والله اعلم.
هذا اللقاء الدموي يحمل كل ثقل الرمز، الى درجة ان الرمزي فيه يحجب الواقعي. الاعلام يتعامل مع هذه الجريمة المروعة، في وصفها عَرَضا يكشف جوهرا. اي ان حياة الانسان لم تعد مهمة، او صارت في الخلفية، بينما تحتل الدلالات الرمزية المسرح بأسره.
كما ترون، حاولتُ ان اجمع بعض عناصر الحكاية، فإذا بي انا ايضا اسقط في الرمز. والرمز، صار في ثقافتنا العربية اشبه بالعاهة، لأنه يعفينا من قراءة الواقع وتصويره، ويدفع بنا الى استنتاجات عامة، لا تدعو الى شيء، بل هو وسيلة لـ”النق”، الذي يقود الى لا مكان.
حين يصير الواقع مجازا والاستعارة رمزا، فهذا يعني سباتا يشبه الموت، لذا تُقتل الضحية في بلادنا مرتين، مرة بالسكين، ومرة ثانية بترميزها، فتضيع الكتابة وتضيع الحقيقة، وندخل جميعا الى المدن الملحية التي رواها عبد الرحمن منيف كي نصير ملحا، حتى من دون ان نرتكب خطيئة النظر الى الوراء.
النهار