ريشار مييه يتحدث عن الأدب والموسم الأدبي في فرنسا:
ما يهمّني اليوم هو نقيض الرواية لارتيابي العميق بهذا النوع
تفوح رائحة أسماء النساء، وتضيع في الأماكن، في غالبية سطور ريشار مييه، الحائر بين الكوراز مسقطه وبيروت العاصمة الأم التي تبنّته وهو لما يزل في السادسة من عمره، قبل أن تقتلعه الحرب من جذوره، ليعود إلى فرنسا مع عائلته، محتفظاً في نبضه بطعم المدينة قبل الدخان. لُقّب ريشار مييه بـ”ناشر ليتل” بعد حصول جوناثان ليتل على جائزة “غونكور”، وكان أوّل من آمن بنصّ هذا الكاتب الفرنكوفوني الأميركي. وقد استقبل “النهار” في مكتبه استقبالاً حميماً كي يخبرنا عن بداية الموسم الروائي الجديد في مباني “غاليمار”. هناك، افترش الطاولة كتابا “قلب أبيض” و”غناء المراهقات” (Cœur blanc et Le chant des adolescentes)، وهما الكتابان الصادران بصيغة “فوليو”، فشكّلا فرصة لإعادة قراءة صور يرسمها بحنوّ وبرودة، تجمع أسماء نساء أحبهنّ وهو في ريعان الشباب. في ما يأتي نص الحوار:
• في مناقشتك الشهيرة مع بيغبيديه على صفحات مجلة “قراءة”، تقول: “لقد أصبحت الرواية أداةً للترفّع الاجتماعي”.
– نعم، لأن الرواية أصبحت نوعاً مهيمناً. فعندما نتكلّم عن الأدب، صرنا نعني الرواية فحسب، لا البحث، ولا القصيدة، ولا غير ذلك. من هذا المنطلق، وبما أنه نوعٌ مهيمن، أصبح الجميع يركض لاهثاً وراء حصّته. اليوم، حسب المرء أن يتخصص في دراسة الآداب لسنتين ليس إلا، حتى ينكبّ على كتابة رواية غير واضحة المعالم، يتكفّل الناشرون تنقيحها وتشكيلها. جدير بالذكر أني لا أعني بكلامي فرنسا فحسب، بل العالم بأسره. قبل قرن واحد، كان الشعر هو الأداة المعتمدة للترفع الاجتماعي. وقد جرت العادة أن ينشر أصحاب القلم ديوان قصائد بشكلٍ عام. لكنّه لم يكن يُسمّى ديوان قصائد آنذاك، بل ديوان شعر. من هذا المنطلق، لم تعد الرواية تعنيني اليوم، بل ما يهمّني هو “نقيض الرواية”؛ غير أن هذه مسألة أخرى. أسرد عليك هذا كله، لأثبت لك مدى ارتيابي العميق تجاه هذا النوع الأدبي. لكن، في إمكاني، أنا وزملائي على الأقل، أن ننشر أجود الروايات وأفضلها بناءً بحكم موقعي في دار “غاليمار”. ولا ننسى أيضاً أن روائع الكتابات لا تنهال على المرء كلّ يوم أو كلّ سنة. لذا، نحاول أن ننتقي أفضل الروايات بين كلّ هذه الكومة الهائلة التي نتلقّاها. في طبيعة الحال، لا شكّ في أن كلامي هذا يزعج الكثيرين، وخصوصاً أني “أبصق في الصحن” إلى حدّ ما، كما يقول المثل الفرنسي. وفوق ذلك كله، لطالما اهتمّ الناس بالكذب، بسدل ستار على وجوههم في مختلف الحالات. لا يقتصر هذا الأمر على الأدب، بل على مجالات أخرى كالسياسة مثلاً. فلعلّ أفضل طريقة بالنسبة إليهم لتجنّب الحقيقة هي حجب الوجوه عن الأنظار.
• بصفتك ناشراً في دار “غاليمار”، ما هي الكتب التي تنوي نشرها لمناسبة بدء الموسم الروائي الجديد؟
– في الواقع، تخطّط الدار لإصدار حوالى خمس عشرة رواية، معظمها من تأليف أشخاصٍ خلّفوا بصمةً واضحة على عالم الكتابة، على غرار ماري نيمييه (الحائزة جائزة “ميديسيس” لعام 2004) التي يفترض أن تصدر كتاباً مثيراً للاهتمام هذه السنة. ومع أني لست مكلّفاً متابعة عملها في الدار، إلا أني مسؤول عن نشر روايتين لشخصين من الشباب، إحداهما كاتبة اسمها فالانتين غوبي، تنشر روايتها الخامسة “من يلمس جسدي، أقتله”. إنه كتاب وجيز إلى أقصى حد، ومؤثّر إلى أقصى حد، بما أنه يتناول إحدى أواخر النساء اللواتي أُعدمن بالمقصلة في فرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية. وكلّكم تعرفون أن آخر حادثة لإعدام امرأة على هذا النحو في فرنسا سُجّلت خلال الحرب العالمية الثانية، في ظلّ حكم بيتان.
عُرفت هذه المرأة بالمجهضة، بمعنى أنها كانت قابلة تمارس عمليات إجهاض سرية. السرية هنا مردّها الى الحظر الرسمي للإجهاض الذي كان مفروضاً خلال تلك الحقبة. فما كان من فالانتين غوبي إلا أن نهلت من تلك الحوادث لتتصوّر مشاهد متعاقبة، قوامها ثلاثة مونولوغات: المرأة التي ستُعدم بالمقصلة، وتلك التي تُجهض جنينها، والجلاد. بعبارة أخرى، نتوغّل في أعماق تلك الشخصيات الثلاث، أو نسبر أغوارها مباشرة. جديرٌ بالذكر أيضاً أنّ هذا الكتاب لا يتطرّق إلى أيّ قصة شخصية؛ فنحن لا ندري من أين جاء هؤلاء الأشخاص، ولا نحتاج حتى إلى معرفة ذلك. عوض ذلك، يلقي الكتاب الضوء على ما يحدث خلال الساعات القليلة التي تسبق الإعدام. قد تعلّقون أنّ قراءة كتاب كهذا لا شكّ تورث القارئ حزناً وتفجّعاً؛ لكن لحسن الحظ أنّ الكتاب قصير، وإلا لكان الأمر يفوق قدرتكم على الاحتمال. أمّا إذا سألتموني عن مشهد واحد في الكتاب يستوقف المرء بروعته واستثنائيته، فلا أملك إلا أن أسمّي المشهد في الصفحات الأخيرة: فالمحكومون بالإعدام خاضعون للمراقبة، كما يعلم القارئ، لأربع وعشرين ساعة في اليوم، والكهرباء مضاءة باستمرار؛ ولمّا كانت المحكوم عليها تدرك أنها تعيش صبيحتها الأخيرة، فقط طلبت من حارسها أن يطفئ الضوء، علّها تحلم بالحرية. إنها لحظة بالغة التأثير في الكتاب. باختصار، هو عمل قويّ إلى أبعد حدود، وهو في رأيي أكثر كتب المؤلّفة نجاحاً وتألّقاً.
• ماذا عن الرواية الثانية؟
– الرواية الثانية “قطب جنوبي”، بقلم نيكولا تيكسييه. إنها الرواية الثانية لروائيّ يافع، يبدي اهتماماً كبيراً بالآلية السردية. الأدب، بالنسبة إليه، أشبه بطريقة عمل الساعة: شيءٌ ما يتحرّك ليطلق حركة شيء آخر، وهكذا دواليك. تدور الرواية حول عالم أحياء من أصلٍ عراقيّ، يعيش في انكلترا، هجرته حبيبته الانكليزية. ذات يومٍ، يُخيّل إليه أنه رأى عمّه يجول في أحد شوارع لندن، بينما الواقع يقول إن هذا العمّ توفى خلال الحرب الإيرانية العراقية، قبل 25 عاماً. يتساءل بطل الرواية عن سرّ ما جرى، ولا يملك إلا أن يقصّ هذه الواقعة على عالم أحياء فرنسيّ شاب، يرافقه في بعثة إلى القطب الجنوبي. هذا الكتاب، الذي يؤدي فيه عالم الأحياء دور الراوي، يعكس محاولة لفهم من يكون هذا الشبح العائد. تتضمّن الرواية أيضاً فصلاً كاملاً حول عودة عالم الأحياء هذا إلى بغداد، في ظلّ الاحتلال الأميركي وفي قلب الحرب الأهلية، حيث يقع القارئ على وصف مذهل تماماً لمدينة بغداد. شخصياً، انا على يقين من أن الكاتب زار القطب الجنوبي فعلاً، لكني لست متأكداً إن كان توجّه إلى بغداد في السابق. على رغم ذلك، أجزم أن الوصف مثير للاهتمام إلى حدّ غير عاديّ. فالأسلوب الأدبي منسوج على طريقة بورخيس تقريباً، حيث الغموض يسبق مزيداً من الغموض والتساؤلات. إنه يصف كلّ ما في بغداد، الروائح… وكلّ شيء. فنحن نعرف أن الرائحة نتنة لأنّ الأهالي لا يملكون برّادات، ولأنّ فتيل الحرب يزداد اشتعالاً يوماً تلو الآخر. في هذا الإطار، لا يسعني القول إلا إنّ هذه المقاربة بين القطب الجنوبي ونقيضه العراق، الغارق في النيران والدماء، مدهشة جداً جداً، وخصوصا أن مصير الراوي، في نهاية الأمر، كان الموت في مركبة محترقة.
هذان إذاً هما الكتابان اللذان أشرف عليهما لمناسبة بدء الموسم الروائي الجديد.
• أثار كتابك، “خيبة الأدب”، جدالاً واسعاً. كما نسج عملك الأخير، “العار” على المنوال نفسه، فشكّل رداً على الانتقادات التي انهالت على كتابك الأوّل. هل يمكن القول إن الأدب اليوم يشكّل خيبة فعلاً؟ أليست هذه ميزة ترافق كلّ حقبة زمنية معيّنة؟ ما الذي يجعلك متشائماً إلى هذا الحد؟
– إني متشائم لأسباب ستجرّنا بعيداً جداً. يبدو لي أن هذا العالم المعاصر لم يعد قادراً على أن يوقد فينا شعلة الأعمال العظيمة.
• لعلّها صفة تنحصر بها فرنسا وحدها. فإذا تناول المرء الإنتاج الأدبي في العالم العربي، لاحظ أنه لا يزال شاهداً على عصره، وإن لم يكن بمثل غزارة الإنتاجات الأدبية في فرنسا؛ ولأيقن أن الأمر يكمن في شيءٍ ما، يفوق قدرته على الاستيعاب. فالأدب هو مرآة عصره. أما في فرنسا، ومنذ نهاية الحرب الباردة، فقد ازدهرت الروايات الخيالية التي تمتزج بالسير الذاتية، على أيدي أدباء اتّبعوا المسلك الأناني في الأدب. لكن لعلّها فترة وتزول قريباً…
– لا شكّ في أنك على حق في ما يتعلّق بنقاط عدّة. لكن الأمر لا يقتصر على الروايات الخيالية الممتزجة بالسير الذاتية فحسب، بل أعتقد أن فكرة الأدب نفسها تتفلّت منا شيئاً فشيئاً. بالنسبة الى العالم العربي، أعتقد أن السبب هو تأخير زمنيّ ليس إلا. فسيدرك العرب، يوماً ما، أن الكتّاب باتوا عملة مفقودة، وأن الحياة الأدبية لم تعد تضمّ إلا المؤلّفين. أترين الفرق؟ الكاتب هو شخص يشرك حياته في عمل أدبيّ. وهذا مفهوم لم يعد يهمّ أحداً. إذا تأمّلت أهمّ الروايات التي يقبل عليها القرّاء اليوم، لاحظت أنها ترتكز على الروايات البوليسية. أما بقية الأعمال، فتقوم على أدب الصالونات، كمؤلّفات آنا غافالدا وكلّ هذه الفظائع… إنّها كتب تقع ما دون مستوى الأدب، كتب الملحقات أو المجلات النسائية.
• كمثل بيغبيديه الذي يظهر عارياً تقريباً على جدران باريس في إعلان لغاليري لافاييت.
– نعم، باستثناء أنها لم تكن صوره بالتحديد. فهذا ليس صدره. لقد طلب من أحد عارضي الأزياء أن…
• أنت تمزح! يا له من محتال!
– فعلاً! كان يجدر به أن يطلب صدراً أكثر تميّزاًَ، بعضلات مفتولة وجسم بطل من الأبطال. في كل حال، أنت تطرحين سؤالاً مهماً جداً، وأعتذر للإجابة عنه بهذه الطريقة التافهة.
• أنت ناشر كتاب “المتسامحات” لجوناثان ليتل، الحائز جائزة “غونكور” لعام 2006. هل شعرت وأنت تقرأ المخطوطة أنها ستنال جائزةً بمثل هذا الاعتبار؟
– كلا. لم أتمكّن من توقّع ذلك. توقّعت أن يُستقبَل الكتاب بنجاح باهر، فتُباع منه 20 أو 30 ألف نسخة، وهذا أمرٌ لا يستهان به. لكني لم أتوقّع له مثل هذا النجاح المنقطع النظير. على رغم ذلك، علمتُ أنه سينجح في جذب القرّاء. كنت قابلت ليتل في هذا المكتب، وفي هذا المكان بالذات.
• ماذا عنك؟ هل تحضّر كتاباً لهذه السنة؟
– نعم! أعدّ كتاباً ضخماً من المقرّر أن يُنشر في كانون الثاني 2009، وسيكون تتمة لكتاب آخر نشرته قبل خمس سنوات بعنوان “مريم بين الظلال”. أمّا حوادثه، فتجري في لبنان عام 1976.
• هل أعود الى زيارتك إذاً في كانون الثاني 2009؟
– أهلاً وسهلاً! بكلّ سرور!
باريس – من ريتا باسيل الرامي
(ترجمة نور الأسعد)
النهار