تعدد الزوجات- قاسم أمين
تعدد الزوجات هو من العوائد هو من العوائد القديمة التي كانت مألوفة عند ظهور الإسلام، ومنتشرة في جميع الأنحاء، يوم كانت المرأة نوعا خاصا معتبرة في مرتبة بين الإنسان والحيوان.. وهو ضمن العوائد التي دل الاختبار التاريخي على أنها تتبع حال المرأة من الهيئة الاجتماعية، فتكون في الأمة غالبة عندما تكون حالة المرأة فيها منحطة وتقل أو تزول بالمرة عندما تكون حالها مرتقية، اللهم إلا إذا كان التعدد لأسباب خاصة قضت به عند فرد أو أفراد مخصوصين، فتقف عنهم وتقدر بقدرهم.
حتى في الأمة التي ألف تعدد الزوجات فيها نرى الرجل إذا بلغ من كمال العقل ما يشعر معه بمنزلة زوجته من أهله وأولاده وعرف أن من حقوقها أن تكون في المرتبة التي تستحقها بمقتضى الشرع والفطرة مال إلى الاكتفاء بالواحدة من الزوجات، ويمكن الاستدلال على ذلك بما نشاهد، ولا نظن أحدا ينازعنا فيه، من أن هذه العادة حفت في بعض الطبقات من أهل بلادنا عما كانت عليه من قبل عشرين أو ثلاثين سنة.
نعم.. أن منع الرقيق كان له أثر محمود في هذه العادة، حيث قطع ورود الجواري التي كانت تملأ بيوت أكابر القوم وأيانهم، ولكن يظهر لي أن ترقي عقول الرجال وتهذيب نفوسهم له أثر مهم أيضا في تلاشيها، ذلك لأن الرجل المهذب لا يرضى معاملة المرأة بالاستبداد، ولا تطاوعه موءته أن همت شهوته بامتهانها.
وبديهي أن تعدد الزوجات احتقارا شديدا للمرأة، لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأة أخرى، كما أنك لا تجد رجلا يقبل أن يشاركه غير في محبته امرأته، وهذا النوع من الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل. ولو سلم أنه ليس بطبيعي، كما ذهب إلى ذلك قوم استشهدوا على رأيهم بمثل الديك الواحد الذي يعيش بين العشرات نمن الدجاج، فأقل ما فيه أنه ميل مكتسب بلغ من النفس الإنسانية بالعادة والتوارث مبلغ جميع الكمالات التي تولدت في نفوس أفراد هذا النوع عند ارتقائه من أدنى درجاته من الحيوانية إلى ما أمد له من الكمال الإنساني، فهذا الاختصاص، بما كسب من التأصل في الأنفس والرسوخ فيها، لا يقل أثره عن أثر الغرائز الفطرية.
وعلى كل حال فكل امرأة تحترم نفسها تتألم إذا رأت زوجها أرتبط بامرأة أخرى، إذا لا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن تكون مخلصة في محبتها لزوجها، فتلهب نيران الغيرة في قلبها وتذوق عذابها، وإما لا تكون كذلك، لكنها راضية بعشرته لسبب من الأسباب، فهي مع ذلك ترى لنفسها مقاما في أهله، فإذا ارتبط بأخرى سواها قاست من الألم ما يبعثه إحساسها بأن ذلك المقام الذي كان باقيا لها قد انهدم، ولم يعد لها أمل في بقاء شيء من كرامتها عنده، فالألم لاصق بها على كل حال.
وان قيل: أن تجارب دلت على إمكان الجمع بين امرأتين أو أكثر، مع ظهور رضاء كل منهن بحالتها، فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن ما يبدى من رضاء كل منهن بحالها، فليس بصحيح إلا في بعض أفراد نادرة لا حكم لها في تقدير حال أمه، وإن وقائع المنازعات بين النساء وأزواجهن، والجنايات التي تقع بينهم مما لا يكاد يحصى، وهو شاهد على أن تعدد الزوجات مثار للنزاع بينهن وبين ضرائرهن وبين أزواجهن ومصدر لشقاء الأهل والأقارب. فمن يدعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهن في أزواجهن ومصدر لشقاء الأهل والأقارب. فمن يدعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهن في أزواجهن ويعشن مع ذلك باطمئنان وراحه بل فهو غير عارف بما عليه حالة النساء في البيوت.
والثاني: أن ما يكون من ذلك الرضاء. في القليل والنادر، ناشئ عن أن المرأة إنما تعتبر نفسها متاعا للرجل، فله أن يختص بها، وله أن يشترك معها غيرها كيفما شاء، وليس لها على هواه (حق) حتى تطالبه، كما كان الرجال عندنا يعتبرون أنفسهم متاعا للحكام في عهد ليس بعيدا عنا.
ويظهر النهوض بما يضعه على عاتقة الجمع بين امرأتين.
قدمنا أن في فطرة المرأة ميلا إلى التسلط على قلب الرجل، فإذا رأت بجانبه امرأة أخرى في فطرتها ذلك الميل، ويمكنها أن تبلغ منه بضروب الوسائل ما تشتهي، تولاها الاضطراب والقلق، وهجرتها الراحة، وكانت حياتها عذابا أليما، وتلك الحال لا تخفى على الرجل المهذب، فكيف يمكن أن تطيب نفسه بمشهد ذلك العذاب الأليم؟!
ويزيد النساء قلقا واضطرابا ما صرح به الفقهاء من انه لا يجب على الرجل أن يعدل في محبته بين نسائه، وإنما طلبوا العدل في النفقة وما شكلها.
ولا ريب أن شقاء المرأة بهذه الحال يكون له أثر كبير شديد في نفس الرجل المهذب، حيث يشعر دائما بأنه هو السبب في هذا الشقاء.
ثم أن الأولاد من أمهات مختلفات ينشئون بين عواصف الشقاق والخصام، فلا يجدون ما يساعد غرائزهم على تمكين علائق المحبة بينهم، بل يجدون ما يعاكس تلك الغرائز وينتمي في نفوسهم البغضاء، ولا يستطيع أحد أن يحول بين ما يشهدون من تخاصم أمهاتهم بعضهن مع بعض وتخاصمهم مع والدهم فيؤثر ذلك في نفوسهم بل يسري في أفئدتهم سم الغش والخدعة والشر، ويظهر أثر كل ذلك عند الفرصة.. مثلهم كمثل الممالك الأوروباوية تظهر بحالة وهي تأخذ أهبتها للحرب، حتى إذا حانت الفرصة وثب كل منها على الآخر فمزق بعضهم بعضا، كما نشاهده في أغلب العائلات.
أين هذا من منظر عائلة متحدة، يعيش فيها الأولاد في حضن والديهم، تجمعهم محبة صادقة، لا يتنافسون إلا في زيادة الحب، زلا يتسابقون إلا إلى الخير يصل من بعضهم لبعض، يربطهم ميثاق غليظ جهلهم كأعضاء جسم واحد، أن فرح أحدهم فرحوا معه، وان بكى بكوا معه، هم سعداء الدنيا في كل حال، أسبغ الله عليهم أكبر نعمة يتمناها العاقل، وهي المودة في القربى.
فلا ريبة بعد هذا أن خير ما يعمله الرجل هو انتقاء زوجة واحدة، ذلك أدنى أن يقوم بما فرض عليه الشرع فيوفي زوجته وأولاده حقوقهم من النفقة والتربية والمحبة، وأقرب إلى الوصول إلى سعادته.
ولا يعذر رجل يتزوج أكثر من امرأة: اللهم إلا في حالة الضرورة المطلقة، كأن أصيبت امرأته الأولى بمرض لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية.. أقول ذلك ولا أحب أن يتزوج الرجل بامرأة أخرى حتى في هذه الحالة وأمثالها، حيث لا ذنب للمرأة فيها، والمروءة تقضي أن يتحمل ما تصاب به امرأته من العلل، كما يرى من الواجب أن تتحمل هي ما عساه كان يصاب به.
وكذلك توجد حالة تسوغ للرجل أن يتزوج بثانية، إما مع المحافظة على الأولى إذا رضيت أو تسريحها أن شاءت، وهي ما إذا كانت عاقرا لا تلد، لأن كثيرا من الرجال لا يتحملون أن ينقطع النسل في عائلتهم.
أما في غير هذه الأحوال فلا أرى تعدد الزوجات إلا حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية وهو علامة تدل على فساد الأخلاق واختلال الحواس وشره في طلب اللذائذ.
والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية التي وردت في تعدد الزوجات يجد أنها تحتوي إباحة وحظرا في آن واحد.. قال تعالى:[فَأنْكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ منَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ، فَإنْ خفْتًمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَاِكَ أَدْنَى أَنْ لاَ تَعُدلُوا].(1)
[وَلْنَ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْل فَتَذَرُوهَا كَالْعُلَقَة. وإنْ تُصِلِحوا وَتَتّقُوا فَإن اللهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً].(2)
ومن هذه الآيات يتضح أن الشارع علق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرد الخوف من عدم العدل غير مستطاع، فمن ذا الذي يمكنه أن لا يخاف عدم مع ما تقرر من أن العدل غير مستطاع؟ وهل لا يخاف الإنسان من عدم القيام بالمحال؟! أظن أن كل بشر إذا أراد الشروع في عمل مستطاع يخاف، بل يعتقد، أنه يعجز عن القيام به والوقوع في ضده.. ولو أن ناظرا في الآيتين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لما كان حكمه هذا بعيدا عن معناهما، لو لا أن السنة والعمل جاء بما يقتضي الإباحة في الجملة.
وكأن مجموع الآيتين قد قضى بتحليل الجمع بين الزوجات ديانة، وبأن الله تعالى وكل الناس في ذلك إلى ما يجدونه من أنفسهم، فمن بلغت ثقته من نفسه حدا لا يخاف معه أن يجور، وإذا أراد أن يتزوج أكثر من واحدة أبيح له ذلك بينه وبين الله، ومن لم يصل إلى هذا الحد من الاقتدار والتحفظ من الجور حرم عليه أن يتزوج أكثر من واحدة. ثم نبه مع ذلك على أن هذه الغاية من قوة النفس لا يمكن إدراكها، زيادة في التحذير.
وغاية ما يستفاد من آية التحليل إنما هو: حل تعدد الزوجات إذا أمن الجور. وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو في أزمننا، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد في العائلات وتعد للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حد يكاد يكون عاما، جاز للحاكم، رعاية للمصلحة العامة، أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بغير شرط، على حسب ما يراه موافقا لمصلحة الأمة.
وإنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدا من أهل المستقبل يأسف على تركها، فإن التمتع بالنساء وان قل في هذه الحالة من الجهة الشهوانية فإنه يزيد من الناحية المعنوية التي يلزم أن تكون وجهة كل راغب في الزواج، فإن رجلا يسوق إلى الزواج سائق العقل، ويوجه رغبته إليه حادي الفكر يعلم أنه إنما يتخذ لنفسه بالزواج قرينا صالحا يمده بالمعونة في شئونه ويؤنسه في وحدته ويشفعه في عمله ويقوم معه على بينه ومن يعول من أهله، فهو يتخير لذلك خير العقائل وأكرم السلائل، ويصطفيها على ما يجب من العقل والأدب وطهارة الظاهر وسلامة الباطن، يكون له منها منظر بهي وملمس شهي وصورة تعجب ومعنى يطرب، فهم يسبق الإشارة وذكاء يستغني عن العبارة، لذة بلطف الشمائل ومتاع بجمال الفضائل.
كل ذلك يكون له من زوجة يختارها لتكون صاحبة له مدة الحياة، تأمن شره وانقلابه، يأمن منها المكر والخلابة، تحسن القيام على أولاده بالتربية الصالحة، وتغذيهم بآدبها كما غذتهم بلبنها، فتأخذ أرواحهم من روحها ما أخذته أبدانهم من بدنها، فينشئون على المحبة ويشبون على الألفة، فيكون للرجل عن ذكاء كله مشهد ظاهر الراحة والطمأنينة وباطنه السعادة والهناء.. عيش ساعة مع التمتع به خير من حياة دهر مع الحرمان من بعضه، فأين التمتع بمثل هذه اللذة من الخلود إلى ما انحط من دركات الشهوة؟!