صبحي حديديصفحات ثقافية

حدود الجسارة

null
صبحي حديدي
لعلّ الكثير من القرّاء صاروا الآن على علم بالدعوى التي رفعتها ‘رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية’ في فرنسا، الـ Licra، ضدّ موريس سينيه Sin’، أحد كبار رسّامي الكاريكاتير المخضرمين في فرنسا، بتهمة ‘التحريض على الكراهية العنصرية’. وبعد طرده من وظيفته في أسبوعية ‘شارلي إيبدو’، المطبوعة ذاتها التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة لشخص الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، بذريعة الدفاع عن حرّية التعبير، سوف يمثل سينيه، يوم التاسع من هذا الشهر، أمام محكمة الجنح في مدينة ليون، حيث يمكن للعقوبة أن تبلغ الحبس خمس سنوات، وغرامة 45 ألف يورو.
الحكاية، لمَن فاتته متابعة وقائعها، أنّ يومية ‘ليبيراسيون’ الفرنسية نشرت تصــــريحاً على لسان باتريـــــك غوبـــــير، رئيس الـ Licra، قال فيه التالي: ‘1( جان ساركوزي [نجل الرئيس الفرنسي] سوف يتزوج من وريــــثة مخازن دارتي الشهيرة)، و2 (أنه يفكّر في الإهتداء إلى اليهودية والتأقلم مع ديانة خطيبته’. رسّام الكاريكاتير اقتبس التصريح بالحرف، ولكنه أضاف إليه العبارة التالية: ‘هذا الفتى سوف يذهب بعيداً’، وكانت تلك هي خطيئته الكبرى التي استوجبت سوقه إلى محكمة الجنح.
العنصر الذي يلفت الإنتباه، أوّلاً، هو أنّ الفتى صاحب العلاقة لم يرفع الدعوى بنفسه، ولا فعلت هذا خطيبته، وتلك حيثية قانونية صرفة قد تكون مثار أخذ وردّ في الجلسة الأولى من المحاكمة. كذلك بدا إصرار الـ Licra على استهداف سينيه وكأنه استئناف، على نحو ما، لقضية أخرى سبق للرابطة أن رفعتها ضدّ الرجل، سنة 1985، بالتهمة ذاتها، وأجبرته على الإعتذار العلني (كان، في سنة 1982، وتعليقاً على الإجتياح الإسرائيلي للبنان، قد صرّح بالتالي إلى إذاعة محلية: ‘هنالك دولتان عنصريتان، هما جنوب أفريقيا وإسرائيل. إذا سُئلتُ، وأنا أرى إسرائيل تقصف، هل كون المرء معادياً للصهيونية يعني أنه معادٍ للسامية، فإني عندها أقول إنني معادٍ للسامية، ولم أعد أخشى التصريح بهذا’).
وبالطبع، ليس في وسع المرء، كما أنه ليس من حقّ أحد، أن يعزل هذه الواقعة الجديدة عن سابقاتها في تاريخ سينيه المهني، أو أن يجزّىء شخصيته الناقدة إلى ‘مراتب’ منفصلة في مسألة التعبير الحرّ عن الرأي، والدفاع الجسور عن الحقّ العامّ، والوقوف خلف القضايا التي تلوح خاسرة لأنّ أصحابها لا يملكون مساندة كافية من مجموعة ضغط أو من شرائح نافذة في صناعة الرأي العامّ. ولعلّ ممّا له دلالة كبرى أنّ أولى ‘قضايا سينيه’، كما صارت اليوم تُسمّى في صيغة الجمع، لم تكن الدفاع عن استقلال الجزائر فحسب، بل إطراء ‘جبهة التحرير الجزائرية’ ذاتها. آنذاك، اضطرّ جان ـ جاك سيرفان شريبر، رئيس تحرير أسبوعية الـ’إكسبريس’ الفرنسية، إلى نشر اعتذار من قرّاء المجلة الفرنسيين الذين أغضبهم كلّ هذا النقد اللاذع لسياسات فرنسا الإستعمارية هنا وهناك في العالم. ولم يكن تفصيلاً عابراً أنّ المحامي الشهير جاك فيرجيس، وكان آنذاك محامي ‘جبهة التحرير’ هو الذي ترافع دفاعاً عن سينيه.
هي، من جانب آخر، قضايا لا تقتصر على فرنسا وحدها، إذْ أنّ الرجل كان ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الإنساني: إعدام الكتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي سنة 1966، أقدمت دار نشر ‘بنغوين’، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، على إحراق 50 ألف نسخة من كتاب سينيه ‘مجزرة’، لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنّ الكتاب كان ترجمة عن الأصل الفرنسي (يُروى، هنا، أنّ لين ـ الذي سبق له أن دافع بقوّة عن طبع ‘عشيق الليدي شاترلي’، رواية د. هـ. لورانس ـ ترك إدارة الدار منهمكة في مناقشة ما يتوجّب عمله بصدد كتاب سينيه، وانسلّ مع أحد المستخدمين الموثوقين، وحمّل الطبعة كاملة على ظهر شاحنة صغيرة، ومضى بها إلى مزرعته الخاصة، فأحرقها هناك!).
ولقد توفّر معلّقون فرنسيون، لا يُعرف عنهم أيّ عداء للسامية، بل لا يُعرف عنهم إلا العكس ربما، تساءلوا عن السبب الذي يجعل اليهود يشعرون بالإهانة إذا كان نجل رئيس الجمهورية الفرنسية ينوي الإهتداء إلى ديانتهم؟ آخرون أشاروا، كذلك، إلى أنّ أيّ قدح محتمل في العبارة التي أضافها سينيه إلى تصريح رئيس الـ Licra، يصعب أن يُرى موجهاً إلى اليهود أو اليهودية، لأنه ببساطة نقد ـ يمكن اعتباره ملطّفاً بعض الشيء، بالقياس إلى سواه من التعليقات ـ من طراز أخذت تنشره معظم الدوريات الفرنسية، ويطال جانب الإنتهازية السياسية في شخصية جان ساركوزي.
أم هي محاكم تفتيش معاصرة، من عيار خاصّ يناسب الديمقراطيات الغربية، حيث حرّية التعبير وقائية أو موسمية أو انتقائية؟ بلانتو، رسّام الكاريكاتير الآخر الشهير، وأحد التلامذة النجباء لمدرسة سينيه في الجرأة والجسارة وعمق النقد، اختار الصيغة التالية للتعليق على قرار طرد سينيه من عمله: لقد رسم فيليب فال، صاحب المطبوعة ورئيس تحريرها، وهو يرتدي الزيّ النازيّ، ويرفس سينيه بالحذاء العسكري، وخلفه عبارة على المطبوعة تقول: ‘شارلي ايبدو’ مجلة يُسمح فيها بكلّ شيء، مع إضافة على لسان فال نفسه: بما في ذلك طرد الرسّامين!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى