صفحات ثقافية

ملائكة المعادن

null
علي جازو
في تفسير مدارك الغيب وتدرج المخلوقات من الأسفل إلى الأعلى، ومن الثابت الثقيل إلى المتحول اللطيف، نقرأ في مقدمة ابن خلدون ترتيباً يتصف بالربط والإحكام: العالمُ المحسوس الجثماني (أي عالم المرئيات) يصعد من الأرض إلى الماء، ثم من الماء إلى الهواء ، ثم من الهواء إلى النار متصلة بعضها ببعض بلا انقطاع ولا تداخل.
يتبدى هنا اتساق الفكر العضوي في نظرة ابن خلدون إلى العالم. ثمة الترابط المنسجم الكلي. إنه استعدادٌ ذهنيٌّ ـ من مادة المحسوس المفكَّر به ـ يرى المخلوقاتِ صوراً تعززُ صوابيةَ الفكر الناظر إلى المخلوقات بعين العالم الذي يحتويها وفق تحولاتها الثابتة من أفق إلى آخر. عمَلُ ابن خلدون يماثلُ عمَلَ المرآة تعكس الدقيقَ دون أن تختلط به، تعكسه وتكشفه من مسافة هي قدرةُ العقل المستقل فيما يبدو عن العالم الذي يصنفه ويرتبه حسب ما تفرضه الفكرةُ المسبقة محسوسةً معاينةً معلومةً، مدرَكةً وكائنة. يبدأ العالمُ ـ بعد ما غدا على ما هو عليه ـ كتكوينٍ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة ومتينة من التدرج والترتيب. آخِرُ أفقِ المعادن متصلٌ بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذورَ له. آخِرُ أفق النبات متصلٌ بأول أفق الحيوان مثل الدود والحلزون والصدف والفَرَاش. لا يوجد بين العوالم المتصلة إلا قوة اللمس فقط.تدرُّجٌ من اللمسات مثل إيقاعٍ من النغمات. حلمٌ واقعٌ في العين كما هو ماءٌ بين المياه! وإنها لقوةٌ سحريةٌ وغريبة ومحكمة! يتعزز الاتصال هنا في كون الآفاق المترتبة دون قسْرٍ مستعدةً لأن يصيرَ أوَّلُها آخِرَها. الترتيبُ خاضعٌ، بمعيارٍ من الرقة حصينٍ، للانسجام والتكامل. هكذا حتى أفق الإنسانِ الحيوانِ الأصعبِ والأكثر تشوشاً وقلة استعداد وتحمل. يتسع ويختتم عالمُ الاتصال عند تخوم الإنسان على كونه الحدَّ النهائي لكل الاستعدادات السابقة. إننا أفُقُ اتصال تالٍ، لكننا لا نعرف ولا نرى عوالم أسبق وألحق من عوالمنا المغلقة! ربما لأن الإنسان فقد طاقته على اللمس؛ لمْسِ ما يسبقه ولمس ما يليه، عبر لمْسِ اللحظةِ ـ المكانِ اللذين يمتصّانه الآن أفقاً لغيابٍ يردمُ كل أفق سواه. لقد سُجِن الكائنُ الأرقى داخل حدود مداركه المغرورة! تحوَّلتْ قدراتُ الإنسان الحديث إلى الفعل والعمل الإجباريين. ومعهما، مع الإكراهِ والعَوَزِ،تحت ضغط حاجات العيش (المرسومة بمكرٍ قذرٍ) فقد استعدادَه الفطري ليكون حدَّاً من حدود الكون اللانهائي! ثمة ما يليه، وثمة ما هو أخف منه وألطف وأذكى وأكثر براعة! فقط لمساتُ اللطف القادمة المتخيَّلة هي التي تسمح عن جدارة بأن نحظى بآفاق جديدة. ثمة داخل الإنسان الفكرُ المحضُ والعقل الصافي.صفاء العقل في أزمنة إذلاله المرة. النفسُ المدركة المحركة المتحولة أبداً! أفق الغيب من أفق كائنات الليل والسماء اللطيفة، أعني الملائكة غير المهمومين قط بعبء مرور الزمن ولا تضاعيف عمل المرآة المرعبة، على حدّ تعبير محور عن خورخي لويس بورخس. بدل أن يكون الإنسانُ أباً للملائكة ـ إذا ما استعادَ قوَّةَ اللَّمس المفقودة ـ صار ابناً للمعادن التي أعادته إلى الأسفل الأثقل، الأقل والأدنى! إنسانُ الأزمنة الحديثة ليس ابنَ المعدن فقط، بل مشوِّهُ صلابته الأرضية ونَسَّاءُ لطافته العلوية. إنه بدايةُ النهاية المخجلة، السيدُ المهانُ، وَليُّها الأوحد اليتيم! ثمة من قال يوماً إن الشعر جسدٌ، إن الشعر وعيُ الجسد، وما الجسد سوى رفات ملاك. يمكننا الآن ، ربما، الاستعداد في النمو من أفقنا الحاضر بقوة باهرة: أفقٌ من رُفاتٍ، رفات هو ما تبقى من جسد ملاكٍ عصي على التصنيف، لكن مغرٍ قدر ما عليه من هشاشةٍ معرَّاةٍ وحزنٍ لامعٍ دفين!!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى