صفحات ثقافية

منفيّ الهنا والهناك” لخوان غويتيسولو

null
المسخ يعود لمحاسبة قاتليه الإرهابيين
كل مؤلف هو داء. إنه عيب وشواذ واستثناء. الكلام للكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، والفعل لكل من يهبّ للامساك بقلم أو للتوسل بلوحة مفاتيح الكومبيوتر. منذ ما يفوق أربعة قرون، ثمة كاتب بإسم ثرفانتس اختطفته مجموعة قراصنة واحتمى بمغارة في الجزائر وكتب نصّاً حارب فيه الطواحين. صار مذاك الهواء وطواحينه لازمة في نصوص العالم. على مذهب مواطنه مبتدع “إيل كيخوتي”، جبه خوان غويتيسولو الأدب كشيء نادر. لم ينفك يتذكر انه في الأساس منشئ وصنّاع، ولم يغفل انه مرصود لإنجاز تحديثي، وإلا فما الجدوى من غواية الكتابة؟ وصل الكاتب الكاتالوني أكثر من مرة الى طرف الطريق، وقرر في كل مرة تحقيق قفزة في المجهول. ربما لأنه رأى صواباً في منطق كاتب إسباني آخر هو خوسيه بيرغامين في قوله ان عصفورا طائرا أفضل من مئة في اليد.
شهية غويتيسولو المفتوحة على تحريك الراكد جلبت له الكثير الكثير من عدم الفهم. فقد آلى على نفسه أن يبحث عن الإستفزاز والنجاح المهرول وفيالق المصفقين. أراد أشخاصا يعيدون قراءته فحسب. لأن الأدب القيّم، في رأيه، هو الذي يحض القارئ على أن يعود إليه. يقيم خوان غويتيسولو في المغرب منذ أعوام ويمضي الصيف في طنجة. في معنى ما، لقد أعاد في تلك المدينة، فعل ولادته ليصير الصوت الذي نعرفه راهنا. في أحد النهارات من سبعينات القرن المنصرم، تأمل الأمواج وهي تتكسر على الساحل الإسباني بدءا من الضفة المغربيّة المقابلة. وكان أن خلّف وراءه ذائقة تشكّلت في باريس مع رواياته التي اتسمت بالواقعية الملتزمة، لكي يفسح لكتابات أشد جسارة كما في ثلاثيته “إيماءات الهوية” و”دون خوليان” و”خوان بلا أرض”. دفعه الانزعاج من السائد الى البحث عن المغاير، وصحب ذلك رفضه لمعظم ما كان نبذه في السابق. على هذا النحو، خفتت حماسته للثورة الكوبية والاتحاد السوفياتي، وأعاد تقويم تجربته مع الحزب الشيوعي. هذا في الأفكار، أما في الشكل الأدبي فاختبر الجيئة والإياب.
عندما أصدر خوان غويتيسولو قبل خمسة أعوام روايته “إنزال الستار” اعتبر انه في صدد وداع الأدب التخييلي. على الأقل توهّم ذلك. هكذا شرع يدوّن المونولوغات وينقل كتابيا الأصوات والكلام الساخر الذي يحوطه. عندما بات في متناوله نحو دزينة من النصوص، تنبّه الى ان ثمة حبلاً يصل الواحد بالآخر. أدرك انها لا تشكل جزرا وإنما هي أرخبيل، فجمعها في رواية “منفيّ الهنا والهناك” الصادرة أخيرا لدى دار “غالاكسيا غوتنبرغ/ سيركولو دي ليكتوريس” في برشلونة. لا تحمل الرواية الجديدة تلك الجذريّة التخمينية والسياسية التي طبعت ثلاثيته. بيد ان ثمة في “منفيّ الهنا والهناك” شدّاً بين الخطاب والتاريخ الذي يميّز سرده. هناك أيضا توتر أخلاقي وجمالي يتقاطع مع هيئة الرواية المعاصرة، كما يراها غويتيسولو. “منفيّ الهنا والهناك” رواية مقتضبة قائمة على أساس فصول عابرة وعلى كبح البناء والتعبير. إنها نقد لحال الكون راهنا، لمركنتيليته الكاسرة وبلاهته العقائدية وتعصّبه. يصير فيها شكل العالم القائم محض استعارات، حيث تلعب الإنترنت والعولمة ووسائل الاعلام أدوارا سردية في النص. تتسلل الى استدارة الجمل فتمنحها نكهة الباروديا. يصرّ غويتيسولو في روايته على التركيب الصارم. يتراءى مفتونا بالكثافة الشفهية في حين يستبعد الإسهاب. تنفتح الرواية على اقتباس ذي مغزى لكارل كراوس: “لكي يستحوذ أسلوبي على أقاويل الزمن”. كان هذا الناقد والشاعر النمسوي من بين قلة شخّصت رثاثة الصحافة والميادين الملاصقة لها، وهو يرفد رواية خوان غويتيسولو بروحه الخائبة. نجد فيها اعتراضا مقنعا على ذرائع قيام الدولة ومناهضة الدولة في آن واحد. نجد كذلك حججا تؤيد الاحتفاظ بالنظام وأخرى تحاجج لاسقاطه. يعتبر غويتيسولو ان المجتمع بات بين فكّي الاستهلاك والإرهاب، وان الإرهاب صار هو الآخر سلعة.
ترث الرواية، في منحى ما، عمل غويتيسولو السابق، “مشهد طبيعي على إثر المعركة” (1982). يستعيد منه شخصية وحش حي “دو سانتيي” الأثيرة المعروفة أيضا بإسم شارل. تبدأ الرواية وقد وصل المسخ حديثا الى “الهناك” وهي مساحة علميّة افتراضية تحاكي العالم البيولوجي، حيث يصادف صورته تحتل إحدى شاشات الكومبيوتر. يتحمس عندها ليعود أدراجه الى “الهنا”، أي الى كوكب الأرض، بغية أن يحاول فهم الدوافع خلف قتله العبثي، على أيدي مجموعة من الإرهابيين. تنطوي الحبكة على نظام مفاهيم، تتأمل في مكانة الأدب، تعيد مقاربة الواقعية، وتستمع الى معارضيها. ربما لا تبرهن الرواية على التعقيد النصي الذي لـ”مقبرة”(1980)  حيث أورد غويتيسولو تحقيقات شبه بحثية، بيد انها، من حيث مستواها الجمالي، تثابر على الجمع بين نمط الرواية المجدد وتأويل الواقع.
خوان غويتيسولو ابن ذهنية جيل 68 من القرن العشرين. استقى أفكاره المتنوعة من أحلام الثورة الطالبية في فرنسا التي نظّر فيها الفيلسوفان لوك فيري وآلان رونو بدءا من نهاية الثمانينات. على مذهب ثلة من المثقفين والكتاب، عمد الى الإجهاز على كل ما هو غربي، على النظام البرلماني وعلى الديموقراطية حتى، ذلك ان القارة القديمة كان مصدرا للتوتاليتارية والكولونيالية. دأب الاسباني خوان غويتيسولو على التنكر للغرب وقد حضته سلبيته النقدية على الكتابة عن نفسه بدءا من رؤيته التملكية للعالم. أدت “حالة غويتيسولو”، كما يسمّيها الناقد الأدبي اينياسيو ايتشيفارييا، الى تداخل مشروعه الأدبي مع مشروعه الذاتي، لتثمر في المحصلة “نرجسية جنائزيّة” بحسب الفيلسوف والباحث فرناندو سافاتير. أيا تكن الآراء في إنجاز غويتيسولو، فهو قدّم نفسه منذ أعوام “ضميرا للغرب” إزاء انحرافاته، لذا خرج من جغرافيته لمحاولة فهم ما يحدث فيها. عمل مراسلا صحافيا حربيا في الشيشان والبوسنة، ودرّس الآداب في جامعات كاليفورنيا وبوسطن ونيويورك ونال جائزة “أوكتافيو باث للآداب”، في 2002، و”جائزة خوان رولفو”، في 2004، وسواهما من الامتيازات، وباتت مكتبة معهد ثرفانتس في طنجة تحمل إسمه.
عندما سألت مجلة “ال كولتورال” الأدبية الإسبانية خوان غويتيسولو إن كان يشعر بعد أعوام من الغربة انه عوليس الذي يوشك أخيرا على العودة الى مسقطه، أجاب ان شيئا واحدا ينقصه لتتحقق تلك الرؤيا: أن يستعيد شبابه. وهذا أمر يتراءى له على شيء من الصعوبة! ينبغي لإسبانيا-إيثاكة، على ما يبدو، الانتظار.
رلى راشد
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى