التغير المناخي والشركات الكبرى
ديفيد إدواردز
وصف فيل ليسلي، وهو مؤلف دليل ارشادي عن العلاقات العامة في سنة ،1992 كيف تعمل الشركات الكبرى على اخماد القلق الشعبي ازاء القضايا البيئية، فقال: “لا يفضل الناس بوجه عام لاتخاذ اجراء بخصوص الأوضاع التي لا تدعو إلى القلق، عندما تكون الحجج متوازنة مع القضية وضدها، وعندما يكون هنالك تشكل واضح . ولذلك، يجب أن يكون وقع التأثيرات في الناس متوازناً، بحيث يكون لديهم شك وافتقار إلى الدافع إلى اتخاذ اجراء ما” .
فلا حاجة اذن إلى كسب القضية حقاً، لأن “خلق الشكوك وتنميتها لدى الجمهور، باظهار أن الموقف ليس محسوماً تماماً، هو كل ما يلزم” .
وظلت هذه الاستراتيجية ناجحة دوماً . ففي يونيو/ حزيران، وجد استطلاع للرأي أجرته منظمة “السوق وأبحاث الرأي العالمية، التي تدعى “موري”، وشركة أبحاث السوق “التي تدعى “ابسوس”، ان ستة من عشرة من الناس، يوافقون على ان “العديد من خبراء العلوم لا يزالون يتشككون في أن البشر يسهمون في التغير المناخي”، وان أربعة من عشرة “يعتقدون أحياناً ان التغير المناخي قد لا يكون بالسوء الذي يتحدث عنه الناس” . وفي الحالين، هنالك نسبة أخرى من الناس تبلغ 20%، غير مقتنعة بأي من الرأين” .
ولكن الجمهور يتعرض للخداع . فالاجماع العلمي ساحق الآن على أن التغير المناخي ناتج عن النشاط البشري، وانه يشكل خطراً عظيماً” .
وفي مقالة كتبها في صحيفة الجارديان أخيراً، ألقى الكاتب مارك ليناس اللوم على وسائل الاعلام، “بصورة كلية تقريباً” على هذا التباين بين فهم العامة والحقيقة العلمية . وقال إن صحيفة الديلي تلغراف، لا تزال تدبج بانتظام مقالات خالية من أي مضمون، تهاجم من خلالها الاجماع العلمي . وتفعل صحيفة الديلي ميل الشيء ذاته على لسان معلقين مثل ميلاني فيليبس .
وكنت قبل سنة، وصفت كيف كالت فيليبس المديح لفيلم “خديعة الاحترار العالمي الكبرى، اخراج مارتن دوركين، الذي بثته القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني، في مارس/ آذار 2007 . ووصفت “فيليبس الفيلم بأنه “بالغ الروعة” لأنه “أحدث خرقاً واسعاً في كل ادعاء أساسي يهدف إلى ترسيخ هاجس التغير المناخي” .
وكان الفيلم أعلن ان “الجليد يذوب، ومنسوب البحار يرتفع، والأعاصير تهب . وكل ذلك من فعل
أيديكم . . هل أصابكم الذعر؟ لا تخافوا، فليس ذلك صحيحاً” .
وفي أعقاب الشكاوى العديدة، التي ليس أقلها شكاوى العلماء الذين ظهروا في الفيلم، حكم مكتب الاتصالات البريطاني “أفكم”، وهو المنظم الرسمي لوسائل الاعلام البريطانية، على الفيلم في الشهر الماضي، بأنه لم يكن منصفاً مع اثنين من العلماء، ومع هيئة التغير المناخي المشكلة من حكومات عدة .
وعلى الرغم من ان هذا الحكم يفضح سلوك القناة الرابعة، إلا أنه يفضح في الوقت ذاته القيود التي يخضع لها مكتب الاتصالات ل “أفكم” ذاته . وكان بعض أكبر علماء بريطانيا زودوا هذا المكتب بأدلة مفصلة تبين كيف ان فيلم “خديعة التغير المناخي الكبرى” هو في حد ذاته خديعة محشوة بعلم زائف . ولكن مكتب “أفكم” قرر انه لم يكن بوسعه ان يحكم على مسألة الدقة العلمية، وبينما ينتظر من البرامج الاخبارية أن تكون دقيقة، فإن البرامج الأخرى التي تتناول الحقائق ليست كذلك، وأصر مكتب “أفكم” على انه لا ينظم إلا المواد الاعلامية المضللة، حيث يحتمل ان تسبب تلك المواد ضرراً أو اساءة” . قرر ذلك المكتب ان فيلم دوركين لم يسبب ضرراً فعلياً لمشاهديه: وليس كافياً انه يضللهم فقط” . وفي رده على حكم مكتب “أفكم”، لم يبد “هاميش مايكورا” رئيس قسم الأفلام الوثائقية في القناة الرابعة، أي اعتذار، وقال معلقاً: ان القناة الرابعة تؤمن بالمشاركة في الجدل بأوسع أشكاله، بدلاً من اخماده، ولهذا السبب كان هذا الفيلم اسهاماً سليماً” .
ولكن مارتن ريس، رئيس الجمعية الملكية البريطانية، وهي احدى أعرق وأرصن الهيئات العلمية، اتخذ رأياً آخر مختلفاً، وقال ان “تحريف الأدلة في قضية بأهمية الاحترار العالمي، هو بالتأكيد فعل يفتقر إلى الاحساس بالمسؤولية، فقد حرف صانعو الفيلم الحقائق العلمية” .
وقول مكتب “أفكم” ان الفيلم لم يسبب أي ضرر، غريب ومستهجن . ففي سنة ،2004 حذرت مقالة ظهرت في المجلة العلمية الرائدة، نيتشر (الطبيعة)، من ان ما لا يقل عن ربع جميع الأصناف الحيوانية والنباتية يمكن أن يكون محكوماً عليه بالانقراض سنة 2050 نتيجة للتغير المناخي . كما قدرت الأمم المتحدة، سنة ،2004 ان الاحترار العالمي قد تسبب في وفاة ما يقرب من 500 ألف انسان على مدى العقد المنصرم . وبخفض دوافع اتخاذ اجراء ما لدى الجماهير، تزيد الأفلام، مثل فيلم “خديعة الاحترار العالمي الكبرى” احتمالات موت مزيد من الناس .
ولهذا السبب دعا العالم البارز في وكالة ناسا (الهيئة الوطنية لادارة أبحاث الملاحة الجوية والفضاء الأمريكية) في شهر يونيو/ حزيران، إلى محاكمة رؤساء شركات النفط والفحم الحجري وغيرها من شركات الوقود المستخرج من باطن الأرض، بسبب ارتكاب جرائم خطيرة ضد البشرية وضد الطبيعة . وقد اتهمهم بنشر الشكوك بشأن الاحترار العالمي بالطريقة المريبة ذاتها، التي سعت بها شركات التبغ ذات يوم إلى التشويش على الروابط بين التدخين ومرض السرطان .
إذا كانت استطلاعات الرأي تكشف نجاعة استراتيجية الشركات والمصالح الكبرى القائمة على السيطرة بنشر البلبلة، والتي وصفها فيل ليسلي في دليله الارشادي الذي تحدثنا عنه في مستهل هذه المقالة، فإنها تكشف كذلك أثر الدعاية الأكثر خفاء . فقد ذكر جيمس ماربوت، من جماعة العدالة الاجتماعية البيئية، التي تدعى بلاتفورم، ان شركات النفط تستهدف بصورة مريبة ما تطلق عليه أوساط صناعة العلاقات العامة اسم “فئات الجمهور الخاصة” . وتتركز اعلانات النفط بصورة محددة على صحف هي الاندبندنت، والجارديان، والأوبزرفر، والفاينانشيال تايمز، ومجلة “بروسبيكت” والقناة الرابعة الاخبارية، وصحيفة نيوستيتمان . ويشرح ماريوت ذلك قائلاً: تستهدف الحملة الانتلجنسيا (النخبة الثقافية) الليبرالية وهي ليست منصبة على السائقين في الفناء الأمامي، بل هي منصبة على آراء من يصنعون الرأي ويشكلونه . وتقوم الفكرة على استمالتهم، ودق اسفين بينهم وبين الناس الذين يعتبرونهم معارضين متشددين” .
وهكذا تعمل شركات النفط جاهدة لاقناع المستهلكين الليبراليين المثقفين بأنها تفعل كل شيء للانتقال إلى ما بعد البترول، على حد شعار شركة بريتش بتروليوم (بي بي)، وتطوير تقنيات بديلة .
ولا عجب اذن، في ان استطلاعاً للرأي، أجرته في الشهر الماضي صحيفة الجارديان بالاشتراك مع شركة آي سي ام لاجراء الاستطلاعات، وجد ان عدد الناس الذين يعتقدون بأن البيئة ينبغي أن تحظى بالأولوية لدى الحكومة، لا الاقتصاد، كان أدنى بكثير (إذ يساوي 47%) بين الأغنياء والأفضل ثقافة ممن شملهم الاستطلاع، مما هو بين ذوي الدخل المحدود والجماعات الأقل ثقافة (اذ يساوي لديها 56%) . وتشكل الفئة الأولى جمهور القناة الرابعة الرئيسي، المستهدف من دون شك، بفيلم خديعة الاحترار العالمي الكبرى . ويساعد السيل المتدفق باستمرار، من الدعاية الموجهة بعناية، على تفسير السبب الذي يجعل الفئة الأفضل ثقافة أكثر انخداعاً في هذه القضية . ان يصدقوا ان التغير المناخي يشكل خطراً حقيقياً . ومعرفة أسباب ذلك ليست رجماً بالغيب، فالغربيون الأثرياء يريدون الحفاظ على نمط حياتهم الذي يتسم باستعمال التكنولوجيا المتطورة والاستهلاك الشديد . ويطمح فقراء العالم الثالث إلى تحقيق مستويات المعيشة التي تقدم لهم من خلال الاعلانات البراقة . والكثيرون منا مغفلون مطيعون لأرباب الدعاية في الشركات الكبرى، الذين تحركهم دوافع جني الأرباح بلا حدود وبأي ثمن .
ووجد استطلاع أجرته شركة أبحاث التسويق البريطانية التي تدعى “يوجوف” في يونيو/ حزيران، ان التغير المناخي ظل في قاع سلم الأولويات لدى كبرى الشركات البريطانية، ولكن المشكلة كما يقول جيمس هانسين، تكمن في ان الوقت آخذ في النفاد . وما لم يتم اتخاذ اجراء سريع، فإن النظام المناخي سوف يتجاوز حدوداً معينة، ما يؤدي إلى “تغيرات مناخية مدمرة تخرج عن نطاق سيطرة البشر” .
* محرر مشارك في موقع ميديا لنس، لرصد التضليل الاعلامي