بعد سبع سنوات غير عجاف: حصاد الإخفاق الأمريكي
صبحي حديدي
في واحدة من أطرف أمثولات رواية ‘الأمير الصغير’، للأديب والطيّار الفرنسي الراحل أنطوان دو سانت ـ إكزوبيري، يطلب الأمير ـ القادم من كوكب آخر، للإيضاح ـ أن يرسم له الراوي صورة خروف، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة يقرّر الأخير رسم صندوق مغلق، ويقول للأمير: الخروف في داخل الصندوق! وفي مناسبة الذكرى السابعة لهزّة 11/9، حين انهارت الأبراج وتقوّضت معها تسعة أعشار أوهام ما سُمّي بـ ‘القرن الأمريكي’، ليس أصلح من حكاية سانت ـ إكزوبيري للتعليق على الإجابة الطريفة التي خلص إليها ‘المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا’، الأمريكي الحكومي، بعد ثلاث سنوات من البحث والتنقيب، بتكليف رسمي من الرئيس جورج بوش، حول أسباب انهيار البرجَيْن على ذلك النحو الدراماتيكي السريع: ‘التفسير موجود في حاسوبنا’!
وفي الموقع الإلكتروني الممتاز ‘حقيقة 11/9’، يكتب كيفن رايان: ‘هيئة 11/9 [التي تولّت التحقيق رسمياً] قالت لنا إنّ عمليات 11/9 نجحت في نهاية المطاف بسبب قصور المخيّلة. لكنّ المعهد الوطني للمقاييس والتكنولوجيا لن يتعرّض لتهمة كهذه اليوم، لأنّ لا شيء في تقريره سوى المخيّلة’! وبالفعل، يقول لنا المعهد إنّ جميع الأحداث غير المسبوقة، غير المنطقية، والمذهلة المباغتة، وقعت جميعها داخل صندوق مركز التجارة الدولي ذاته، حتى قبل أن نبصر أياً من تلك الأحداث. وبالطبع، لا يقدّم المعهد أيّ دليل ملموس، على الإطلاق، يثبت تأويل أيّ من الوقائع التي جرت فعلياً على الأرض، و’علماء جورج بوش ليسوا أصلاً معنيين بأمر آخر سوى الحفاظ، بضعة شهور أخرى، على القصّة السياسية السادية التي يتبناها رؤساؤهم’، كما يعلّق رايان.
غير أنّ صناديق 11/9 ليست تكنولوجية فقط، بل جيو ـ سياسية وجيو ـ ستراتيجية وفكرية وثقافية… وهي، بمرور السنوات، وبعد غزوَين عسكريين أسفرا عن احتلال أفغانستان والعراق، صناديق لا تنفتح بمقدار بوصة إلا وتنغلق متراً لكي تواصل إبقاء الحقيقة طيّ الكتمان، أو طيّ التحريف والتشويه والإيهام والإستيهام. أوّل الصناديق يحتوي على حقائق الفشل الذريع في تنفيذ ما أطلقت عليه الإدارة تسمية ‘الجملة ضدّ الإرهاب’، لا لأي اعتبار آخر سوى أنّ الأخطار الامنية المحدقة بالولايات المتحدة، ومعها غالبية حلفائها، آخذة في التزايد بدل الإنحسار؛ ومثلها كراهية الشعوب للسياسات الامريكية، وصورة أمريكا إجمالاً، حيث لم تنفع كلّ حملات التجميل والتضليل.
صندوق آخر يضمّ سلسلة الإخفاقات الفاضحة التي انتهت إليها تلك المذكّرة الشهيرة التي قدّمها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد إلى الرئيس بوش، وكتبها دوغلاس فايث، كبير ستراتيجيي البنتاغون آنذاك، وأحد اشرس المحافظين، وختمها هكذا: ‘إذا لم تنجح الحرب [على ما يُسمّى ‘الإرهاب’] في إدخال تغيير جوهري على خريطة العالم السياسية، فإنّ الولايات المتحدة لن تكون قد حققت هدفها’. وبالطبع، ينبغي أن نتذكّر ذلك الهدف، كما حدّده فايث لرؤسائه: ‘تحويل الشرق الأوسط وعالم الإسلام الأعرض بشكل عامّ”.
والحال أنّ هذا هو الصندوق الأكثر اكتظاظاً بالأكاذيب، أو الحقائق الدامغة المضادة في القطب الموازي للأضاليل: من طهران إلى بغداد، ومن دمشق إلى بيروت، ومن رام الله إلى غزّة، ليس دون المرور على عواصم ‘الإعتدال’ العربي… إذا بقيت لهذه المفردة من دلالة عملية!
واليوم، في الذكرى السابعة، لا يلوح أنّ أحداً ممّن استطابوا تأثيم المسلمين يوم 11/9/2001 قد تعلّم أيّ درس مغاير طيلة السنوات السبع… غير العجاف البتة، والحقّ يُقال! تتصاعد، ما تزال، أصوات تأثيم المسلمين كافة (والعرب على رأسهم بالطبع)؛ وتتجاوز خطاب المستشرق والأكاديمي والأنثروبولوجي في الكتب والجامعات، فيردّدها الجنرالات والساسة والمعلّقون، وتجري على ألسنة البشر في الشوارع. وما تزال المخيّلة السياسية الأمريكية الجَمْعية، وجناحها الليبرالي خاصة، شديدة الولع بالوصف وليس بالوصفة، وبتشخيص واقعة الشرّ المنفردة وليس الواقع الشرير العريض، وباللجوء إلى استثناء القاعدة وليس الإعتراف بوجود استثناء على هيئة قاعدة ثانية. وهذه، في الواقع، مخيّلة أخرى غير تلك القاصرة التي اتكأت عليها هيئة التحقيق في ما جرى يوم 11/9، لأنها واسعة فضفاضة متحررة من كلّ عقال، ترفض الإقرار بانزلاق أحفاد الحلم الأمريكي نحو أكثر أشكال الأصولية قتامة وجهالة وعنفاً، وتأبى الإنصات إلى الهدير الصاخب في فضاءات أمريكا ما وراء المحيط، وتعفّ عن إلصاق الأذن بالأرض لكي تتحقّق من شدة الإرتجاج الآتي…
كان الأسهل على رجالات تلك المخيّلة، ولم يكن أمثال جورج بوش وديك شيني وكوندوليزا رايس ودونالد رمسفيلد وريشارد بيرل وبول ولفوفيتز هم وحدهم كبار ممثّليها، توجيه إصبع الإتهام إلى تشكيلة أعداء تضمّ أسامة بن لادن ومنظمة ‘القاعدة’ و’الإرهاب الدولي’ و’الخطر الأخضر’ الإسلامي الذي حلّ محلّ ‘الخطر الأحمر’ الشيوعي… على نحو يريح المتخيّلين ويجعلهم يستريحون إلى خيارات الردّ والثأر والبرهنة على عظمة الولايات المتحدة. كان سهلاً تماماً إعلان الحرب (على مَن؟)، بعد الإتفاق الأقرب إلى الهستيريا الجَمْعية على أنّ ما تعرّضت له الولايات المتحدة ذلك اليوم ليس سوى الحرب، والحرب وحدها.
في المقابل، كان صعباً، أو بالأحرى غير مستحبّ وغير شعبي وغير ملائم، أن تتذكّر الولايات المتحدة سلسلة الحقائق الكفيلة بتنشيط المخيّلة، قبل انتشالها من خمول القناعات الكسولة إلى صحوة الحقائق الصلبة ـ الصعبة. ‘ذاكرة أمّتنا طويلة، وسطوتنا واسعة’، هكذا أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت في أوّل تعليق لها على انفجارَي نيروبي ودار السلام، قبل أن تعلن تخصيص مكافأة المليونَيْ دولار لمن يدلّ على هويّة الجناة. آنذاك امتزجت، في هذا التصريح، نبرة التهديد والوعيد بتلك الأطروحات الفلسفية حول الأسباب الكبرى التي تجعل الأمريكي المعاصر رائداً للديمقراطية والحرية والتسامح، قائداً للعالم الخيّر ضد العوالم الشريرة، وهدفاً للإرهاب والإرهابيين.
غير أن أولبرايت أثارت سؤالاً بريئاً في مظهره، بل هو أقرب إلى السذاجة، وكان من المدهش أنّ إجاباتها على ذلك السؤال الواحد لا تقوم بأكثر من التشديد على قصر الذاكرة وضيق السطوة. سألت أولبرايت: ‘لماذا يحدث هذا الأمر الرهيب لعدد من الناس كانوا يقومون بعمل خيّر للغاية’؟ وأجابت هكذا: ‘لعلهم تعرّضوا للهجوم بسبب أنهم يقومون بعمل خيّر للغاية. ربما أُفردوا لأنهم يمثّلون بلداً هو الأعظم عالمياً في الدفاع عن الحرّية والعدالة والقانون. ربما لأننا نمثّل قِيَم التسامح والإنفتاح والتعددية، التي تنهض الآن في كلّ جزء من أجزاء العالم. ربما لأننا أقوياء، ولأننا نستخدم قوّتنا لحلّ النزاعات التي يريد البعض الإبقاء عليها إلى الأبد’.
وحدها الذاكرة القصيرة هي التي تسارع إلى تقديم مثل تلك الإجابات، على مثل ذلك السؤال. ألم تكن الأسئلة أوسع نطاقاً بما لا يُقاس عند تفجير المبنى الفيديرالي في أوكلاهوما، على يد إرهاب أمريكي ـ أمريكي صرف؟ ألم تكن الإجابات أشدّ تعقيداً على سؤال واحد أثاره تفجير المجمّع العسكري في قلب الرياض، العاصمة السعودية، وبعده تفجير المقرّ الأمريكي في قاعدة الخبر؟ أليس في وسع المرء أن يبدأ من التناظر البصري العجيب (والرهيب حقاً) بين برجَيْ ‘مركز التجارة الدولية’ ومبنى المقرّ الفيديرالي في أوكلاهوما، والمبنى السكني الأمريكي في قاعدة الخبر، وخرائب نيروبي ودار السلام، إذا وضعنا جانباً السفارة الأمريكية في بيروت؟
صورة الخراب متشابهة، والتداعيات لا بدّ أن تخرج من منبع واحد لكي تذكّر بالسؤال الحارق المباشر: لماذا يُسفك دم الأمريكي هنا وهناك، بين ظهراني الأمّة كما في أصقاع بعيدة عن الأمة؟ السؤال الآخر غير المباشر يمكن أن يتفرّع ويتشعّب ويتنوّع، ولكنه سينتهي دائماً إلى معطى الحدّ الأدنى: إذا كان ‘الإرهاب’ هو الذي يسفك الدم الأمريكي (الضالع أو البريء، العسكري أو المدني)، فما الذي يغذّي هذا الإرهاب عاماً بعد عام، وعملية دامية إثر أخرى؟ وأيّة قضية، أو ربما أيّة شبكة معقدة من القضايا، هذه التي تستولد منظمة ‘إرهابية’ إثر أخرى، ودولة ‘عاصية’ إثر دولة؟ وحدها الذاكرة القصيرة سوف تتذرّع بالقيادة والريادة، متناسية أنّ لائحة ديون الشعوب المستحقة على الولايات المتحدة طويلة طويلة، بعضها جمرٌ متّقد تحت رماد خامد، وبعضها ينتظر الإندلاع، وبعضها الثالث من نوع يجري استيفاؤه بالعبوات الناسفة والعمليات الإنتحارية. ولهذا تواصل المخيّلة السياسية الأمريكية إنتاج خطاب شبه أحادي لا يكفّ عن إعادة عواقب 11/9، الفعلية المتشابكة المتعددة العابرة للقارّات، إلى صندوق واحد مغلق اسمه ‘الإرهاب الإسلامي’.
ولكنها جدّ قليلة، بل نادرة تماماً، تلك الأصوات التي سألت وتسأل: ألسنا نحن، أمريكا ما قبل سقوط جدار برلين، الذين هندسنا صيغة ‘الأفغان العرب’، ثم لم نجد بدّاً من إطلاقهم في أربع رياح الأرض حين تهدّم الجدار وبدا أنّ الحرب الباردة أوزارها؟ ألسنا نحن الذين وفّرنا ونوفّر لهم ميادين ‘حروب الله’، في البوسنة والصومال وفلسطين المحتلة والسعودية والكويت ومصر والجزائر وجنوب لبنان وبلاد الشاشان والفيلبين وكوسوفو؟ ألم ندخلهم، بأيدينا وجرّاء الغزو والإحتلال العسكري، إلى العراق؟ ألا نعيدهم، اليوم إلى أفغانستان، والباكستان؟ وأيّ خيارات سياسية وأمنية وثقافية جعلتهم يتوغلون في قطارات مدريد وأنفاق لندن، مدججين بالعبوات الناسفة القاتلة؟ ألسنا، من جديد، نضرس حصرم ‘عاصفة الصحراء’ وفلسفة التدخل والنيو ـ كولونيالية عن طريق التعاقد بالتراضي بين الحكومات المحلية الفاسدة المستبدة، والشرطي الكوني الأول، الذي يتواجد لا للحفاظ على مصالحه الحيوية العليا فحسب، بل أيضاً لكي يقبض من أهل الأرض ثمن قيامه بواجباته تجاه ذاته؟ ألسنا، بالتكرار العتيق ذاته، أمام التنميطات العتيقة ذاتها عن ‘الإرهاب’ والإرهابيين، و’الأصولية’ والأصوليين، حيث الوصف أهمّ من الوصفة؟
وثمة، بالطبع، تلك الضمائر الأمريكية الأخرى التي تنطق بخطاب نقيض، على منوال موقع ‘حقيقة 11/9’، من المثقفين والكتّاب والعلماء والناشطين الهادفين إلى دحض الرواية الرسمية لما جرى، ليس تطويراً لنظرية المؤامرة، بل تأسيساً لنظرية عالية المصداقية حول لجوء السلطات الأمريكية إلى طمس عشرات الحقائق الدامغة: عن سابق عمد وتصميم، وتفادياً للحساب والمسؤولية من جانب أوّل؛ واستغلال الحدث لتمرير أجندات أمنية وعسكرية وسياسية مغامرة، في الشرق الأوسط وسواه، من جانب ثانٍ. وثمة، في الصدد ذاته، حركة تأليف ناشطة أعطت أعمالاً بالغة الأهمية، مثل دافيد راي غريفث: ‘بيرل هاربر الجديدة: أسئلة مقلقة حول إدارة بوش و11/9’، و: ‘العقيدة المسيحية والحقيقة وراء 11/9’؛ جيم مارس: ‘مهمّة من الداخل: إماطة اللثام عن مؤامرات 11/9’؛ جورج همفري: ’11/9: نهاية الوهم’؛ ماتياس برويكرز: ‘المؤامرات، نظريات المؤامرة، وأسرار 11/9’؛ دون بول وجيم هوفمان: ‘الإستفاقة من كابوسنا: جرائم 11/9 في مدينة نيويورك’؛ نافذ مصدق أحمد: ‘الحرب على الحقيقة: 11/9، التضليل، وتشريح الإرهاب’؛ وبستر تاربلي: ’11/9: إرهاب مركّب، صُنع في أمريكا’؛ وأخيراً، باري زويكر: ‘أبراج الخديعة: كيف تستّرت وسائل الإعلام على 11/9’.
الثابت، مع ذلك، أنّ صندوق 11/9 سوف يظلّ مغلقاً على غالبية حقائقه الكبرى، حتى أمد طويل… طويل.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –