صفحات الشعر

يانيس ريتسوس: يد كبيرة غير مرئية ترفع الكراسي

null
يانيس ريتسوس
بالتأكيد لم يعد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس غريبا عن اللغة العربية، إذ قد يكون واحدا من أكثر شعراء الغرب ترجمة إلى العربية. هذه الخيارات المترجمة هنا مستلة ـ القصيدتان الأوليان ـ من »ملاحظات على هامش الوقت« (١٩٣٨ ـ ١٩٤١)، أما الثلاث اللاحقة فمن كتاب »أهلّة« (١٩٤٦ ـ ١٩٤٧)، بينما القصائد الباقية فمن »تمارين« (١٩٥٠ ـ ١٩٦٠). وهذه الدواوين الثلاثة، لم تنشر إلا بعد عدة سنين من كتابتها، إذ صدرت للمرة الأولى في الأجزاء الثلاثة من (أشعار ١٩٣٠ ـ ١٩٦٠) الصادرة عن منشورات »كيدروس« في اليونان بدءا من العام .١٩٦٠

حضور
يثرثر الهواء أمام النوافذ
مثل الذين هم على أهبة الاستعداد للرحيل
يصبح الأثاث مثل صبيات فقيرات
يجمعن الزيتون المتساقط.
يسير المساء وحيدا تحت أشجار الزيتون
والسهل بقمحه المحصود
شيء نرفضه، جلد الصرصور القديم
يشبه قبة جرس تهاوت بين الأعشاب اليابسة
بعد ذلك بفترة طويلة، هلّ مطر ناعم اصطاد عصافير الدوري

ينام القمر بهدوء تحت أشجار السرو
مثل محراث مهمل. ينام الفلاح تحت الأرض
امرأته جالسة وحدها مع الكلب والثور النحيف.

أيادي الصحو متجمدة
مع العلم أنه يخفي منديله الأسود تحت ذقنه
لكن الفلاح ترك على مقبض المحراث
آثارا أبلغ من قوة يده
وظهر الكرسي احتفظ، ساخنا، باتساع ظهره.

لا أعرف. لكل هذه الأشياء العديمة المعنى
أريد أن أكتب أغنية قصيرة
تثبت أنني أجهلها تماما
إلا إذ كانت كما هي
وحيدة ولا تستدعي
شفقة أحد.
تأخر
ذهب الصيف على عجل
لم نستطع اللحاق به
غيوم كثيفة معلقة في أعالي الجبال
مثل أقنعة مأساة قديمة. ما العمل؟

دائما، تزعجنا أحذيتنا المهترئة قليلا
يزعجنا الضوء، تزعجنا الغيوم
نصل أمام شجرة مزهرة
أمام الخبز، أمام النافذة الأقرب،
مضطربون قليلا، مبهورون
بشعور أننا تأخرنا قرنين
أيكون ذلك لأننا توغلنا بعيدا؟
معنى البساطة
أختبئ خلف أشياء بسيطة كي تجدوني
وإن لم تجدوني هناك، فستجدون الأشياء
وتلامسون تلك التي لامستها يداي
عبرها، تتحد بصمت أيدينا.

يلمع قمر آب في المطبخ
مثل آنية مُقصدرة (ومن خلال هذا نفسه، أحدثكم)
تضيء المنزل الفارغ، وصمت البيانو الرائع
ويبقى الصمت قائما

كل كلمة هي منفذ
باتجاه لقاء يخفق غالبا
وتكون كلمة حقيقية
عندما تؤكد على التواصل.

تسامح
نهار الأحد. تلمع الأزرار فوق السترات
مثل ضحكات صغيرة. رحل الترامواي
بعض الأصوات مبتهجة. من الغرابة
أننا نستطيع الإصغاء والتجاوب تحت الصنوبرات
يحاول عامل العزف على الهارمونيكا.

ألقت
امرأة تحية الصباح، لعابر
صباح الخير
كلمة جد بسيطة وجد طبيعية
تثير فيك الرغبة في أن تتعلم العزف
على الهارمونيكا تحت الصنوبرات

ما من قسمة أو طرح. فقط، القدرة على النظر
خارج الذات. حرارة وهدوء. علينا أن لا نكون
ذاتنا فقط، لكن أن نساوي ذاتنا. إنها عملية
حسابية صغيرة.
عملية حساب جار. سهلة الحل
لتؤكد أن الطفل يستطيع النجاح وهو يلعب على أصابعه تحت
الضوء
أو
وهو يعزف على الهارمونيكا كي تسمع المرأة.

النساء
بعيدات جدا هن النساء. لشراشفهن عطر ليلة طيبة.
يضعن الخبز على الطاولة كي لا نشعر بغيابهن
وعندئذ نشعر بذنوبنا. ننهض من على مقاعدنا ونقول:
لقد عانيت كثيرا هذا النهار أو اتركي ذلك، سأضيء، أنا، المصباح
وعندما نكشط عود الثقاب، تستدير متمهلة
تتجه صوب المطبخ بنشاط غريب
ظهرها
كهضبة من المرارات الصغيرة، محملة بموتى عديدين
موتى العائلة، موتاها، موتنا نحن
نسمع خطواتها تقرقع على الأرض الخشبية
نسمع الصحون وهي تبكي في خزانة الأطباق
ومن ثم القطار المحمل بالجنود نحو الجبهة.
غنى
في ليالي الصيف، ساعة سقوط الندى
نسمع حُبيبات الهواء تخشخش فوق نعاسنا.
كقطيع يمر متخفيا
من دون ثغاء، كما لو أنه يرعى السماء.

أجل، قطيعنا الخاص
قطيعنا، نحن الذين لم نملك يوما خروفا ـ أنه قطيع
واثق، هادئ، مثالي
وعندما نستيقظ في الصباح
ـ ما علينا القيام به، هو ـ
التلفظ بعبارة متواضعة جدا
تكتسب معنى وقوة هذا الغنى المجهول
غنى، يصبح حاضرا.

مسـاء
تنقر الدجاجات على الطريق. كانت
امرأة القائد العجوز
جالسة على العتبة، حاملة حفيدها
على
ركبتيها المتباعدتين

طفل يحمل سلة
وفي الجهة المقابلة، ساعة الغروب
منازل فوضوية بصناديقها القديمة،
بأسرّتها الحديدية، بطاولتها وبراويزها
الحاكي الصدئ
يصدح في الغرفة المقفلة. والشراشف
تطوي تاريخها في مربعات واسعة. لا نسمع البحر
يد كبيرة، غير مرئية، ترفع الكراسي
لمسافة قدمين فوق السطح الأرض
كيف يعيش الناس من دون الشعر؟

تنسيق
طيلة الليل، تغيب الأبواب والنوافذ،
ولا نعرف أين ـ طيلة الليل ـ ربما تتجول في الشوارع
أو في الغابات الكبيرة القديمة، ربما تعود لتصبح أشجارا. لا نعرف أبدا.
ضجة هذا الخشب الذي نسمعه في الليل على أرصفة المدينة.
تأتي بدون شك من الأبواب والنوافذ التي تهرب
تاركة بذلك المنازل لتتحدث بحرية مع السماء.
ومع ذلك، عند بزوغ النهار، تعود الأبواب والنوافذ إلى أمكنتها
لتعزل السماء والبيوت، كي تكتم
الأسرار عن الذين يعرفونها، كي يتمكن البشر من التنقل مجددا،
كي يفتحوا بابا ويغلقوه، كي
يحددوا
الوقت والمكان، كي يستلوا أدواتهم
المنشار، المتر، الملقط، البيكار،
كي يُحصوا على أصابعهم القصيرة والسمينة وليكتبوا الأرقام المتسامحة
لحساباتهم المفيدة على الألواح التي قطعوها لتوهم
بحروف غير سوية وبشارات هندسية ساذجة
ليتمكنوا من صنع أبواب ونوافذ جديدة ـ لكن لا لتعزل، لا ـ
ببساطة كي تستجيب لحاجات النمو السكاني وللحرارة أيام الشتاء.
لدرجة أننا، كل صباح، نشم رائحة الخشب المصقول
حتى في الأحياء البعيدة.

مساء السبت
دخل حانياً ظهره كما لو أنه يحمل على كتفيه ثقل يوم بطالة
ثقل مدينة موحلة، بنوافذ مقفلة
ومطرقة لم تضرب السندان.

إنه مساء سبت صامت
حانة عابقة بالدخان
ثلاثة بحارة يقولون شيئا ويقومون بحركات بعيدة.

كأس يقع أرضا. لا يُسمع صوت تحطمه
وحده، سلّم باخرة، مصنوع من الحبال
يطرق بالزجاج المغشى بالبخار
هل سيقودنا السلّم هذا إلى مكان ما؟ هل شاهدته؟

يهز رأسه بالإيجاب. ما من شيء آخر.
يجلسان على الطاولة نفسها. يتقاسمان خبزهما.
عندما تجيء الشمس الغاربة بوجهها الواسع والحار
ـ فوق هذا الزجاج عينه ـ
لتنظر إلى الداخل.
يبعدان كرسيهما من حولهما كي يرقصا.

لحظة
حيّ شعبي متعب. تنعس المصابيح.
الحانات البائسة، مصطفة كنساء فقيرات
ينتظرن بفارغ الصبر أمام المستشفى العمومي.
الشارع معتم. يحدثن بعضهن عن ضرورة النوم باكرا. فجأة
تضاء الحانات حتى آخـــر كرسي فيها
بضحكة مراهق بيضاء. في اللحظة التي تلي
نسمع هدير البحر، اللامتناهي، الوحيد، الذي لا يقهر.

شراهة
مساء واعد، مساء شره مليء بالنداوة،
مساء أخضر مثل بطيخة. وهو، بسكينه،
يحز عميقا في الثمرة المستديرة، ليمتص
الجلدة الزهرية اللامرئية، بينما على شفتيه
يسيل عصير أحمر كما دمه.

امرأة، سيرها ربيع
مرت على الرصيف المقابل الكلي البياض
بهية في يقين جمالها البريء
كان النهار ذهبيا ومتماسكا. وكلما تحركت
كان جسدها يترك حفرة في الهواء
حفرة، تماما على طول جسدها
يتبعها من الخلف، صف
من التماثيل الشفافة، يتبعها إلى البعيد
إلى زاوية الشارع حيث تختفي.

يسدل بائعو الزهور ستائرهم المعدنية
في حين
تسمرت هذه التماثيل الشفافة، عارية
إلى آخر الأفق، في ممرّ أبيض.

يهطل مطر ناعم على أكتافها الرخامية.

هكذا دائما
كلّ ليلة، ينهار كلّ شيء في العتمة.
ومع ذلك، تحيا ضجة هذا الخوف من بعده. وهذا الصدى
كما لو أن كل شيء يستعيد نفسه من البداية.
في الواقع
غداة اليوم التالي، مع نداوة الفجر، بين
الأبنية الجديدة، بين النيران
التي ترسلها المربعات الكبيرة البيضاء والصفراء، تقف
الحياة أمام الزمن الفحولي مثلما تقف امرأة أمام رجل
منتظرة أن تضم أن تُغنّى
لتتمكن من الإنجاب ومن أن تغني وحدها.
ترجمة/ اسكندر حبش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى