صفحات الشعر

فـي الــحـــرارة الــشــــاغــرة

null
في قصيدة لهولدرلن من ترجمة اندره دو بوشيه (من مواليد باريس 1924) جاء: “هل ثمة قياس على الارض؟ / ليس ثمة اي قياس. لأن عوالم/ الخالق لم تعلّق مسرى الرعد”. سماء من رصاص. جدران من الجص. ارض باهتة اللون. هذا هو المشهد الطبيعي لدى شاعرنا. وهذه السماء والجدران والارض يحدّها قاموس من المفردات محدود. وعلى الاخص مفردات، كالجبل، الجدار، النهار، القش، الدرب، العاصفة، الصيف، الحرارة، الحقل، الجفاف، البرد، الحجارة، الضياء، وغيرها مما يمكن القارىء ان يلاحظه. هوية هذه المفردات زئبقي. او بالاحرى لا هوية معينة لها، بل حضور خالص وحسب على بياض الورقة او ورقتي كما يصفها الشاعر: “لا أمضي الى ابعد من ورقتي. بعيداً جداً قُدّامي،/ تردم ورقتي وَهْدة”. لنأخذ مثلا قوله: “نحو القش. نحو جدار أصياف كثيرة، كألق القش/ في كثافة الصيف”. فهذا القش الوحشي يمزّق الكثافة. ونكتشف تحتها إذذاك، كل الدفء الأنساني، كل الحنان. إنه موقع التكوّر على الذات، ركيزة الحضانة، أليس هو قريباً جداً من الجسد؟: “لي يدان حارّتان، يدان من القش. وجبيني من القش يتقدم الى جانبي في الحقل الملتبس”. أو قوله: “القش الذي نظل مستندين اليه، هو القشّ/ بعد المنجل”. كذلك، يمكن أن يؤخذ القش كقطعة من النهار. فالنهار عند شاعرنا، يظهر حارّاً وبارداً معاً، ملتهباً ومثلّجاً معا. ويأخذ على التوالي وجه البعيد الذي نصبو اليه، والقرب – الجدار: لأننا نصطدم به ايضاً، ونتحطم على “حرارة الحجر – التي تشبه البرد – على جسم الحقل”. “لكنني أعرف الحرارة والبرد” يضيف الشاعر. يعني انه يعرفهما متساويين، يشبه احدهما الآخر. ومن هنا كان جمال هذه الصورة المدهش: “النهار، فراشة مثلّجة”. لأن في النهار ذلك الاضطرام المرفرف، تلك النار المجنّحة غير الملموسة، التي اصابها المدى بالشلل، المدى الذي هو ايضاً النهار، النهار ذاته. بمثل هذا التحليل التقريبي يمكن الدخول الى عالم دو بوشيه الغامض الذي ينحدر، الى جانب جاك دوبان، من صلب رينه شار. حتى انه يُقطّع، مثله، قصائده الى شذرات. إلا أن نبرته أكثر كمداً، وأكثر استسلاماً للبياض والصمت. كما ان الرؤية الشعرية عندهما، ليس لها القياس نفسه ولا المقصد نفسه. فعند شار، ثمة عنصران في العالم موضوعان في المستوى نفسه للاختبار، يتنازعان كي يخلقا، بالتناقض والتركيب والاستعارة، ارتفاع الكائن الذي سيسمح للواقع بأن يكون متجاوَزاً. في حين ان العمل عند دو بوشيه، يعكس التجاوز الذي يقودنا الى الحقيقة “الخشنة” للهُنا: تناقضه يتدخل بين الحاجز والبعيد، ويلعب في العمق لا في الطول.
نُقلت القصائد الآتية من طبعة “Poésie / Gallimard” التي تضم معاً “في الحرارة الشاغرة، 1961″ و”أو الشمس 1968” ومختارات من “التفكك، 1984″، والتي حازت عام 1996، “جائزة الشعر الكبرى لمدينة باريس”.
من طرَف المنجل
I
الجفاف الذي يكتشف النهار.
في كل اتجاه، فيما العاصفة تمضي
في كلّ اتجاه.
على درب تظل جافة برغم المطر.
الأرض الشاسعة تنصبّ ولا يضيع شيء.
الى التمزّق في السماء، كثافة التربة.
أُحْيي وُصْلة الدروب.
II
الجبَل،
الأرض التي شربها النهار،
بدون أن يتحرك الجدار.
الجبَل،
كشرخ في النفَس
جسد مجْلدة.
الغيوم تهبط الى مستوى الدرب.
وتضيء الورقة.
لا أتكلم قبل هذه السماء،
التمزّق،
كمنزل عاد ينتعش.
رأيت النهار مزعزعاً، بدون أن يتحرّك الجدار.
III
النهار يسلخ العراقيب.
ساهراً، مُغلَق المصاريع، في بياض الحجرة.
بياض الأشياء يظهر متأخّراً.
أمضي مباشرة الى النهار المضطرب.
أصول
1
قوة
السعال أو مهارته
مَجْلَدة عجيبة.
2
البقاء على مستوى بعض بوصات من الجبين،
في النار العاجزة.
كشجرة في البرد، يتيه الجدار المتجاوَز
أيضاً، رسْماً حقيقياً.
الأيدي التي تحرقها، مساء،
هذه الريح ذاتها المعاقة
على الدرب.
3
هذه التمتمة البيضاء
هذه الفقّاعة
شكل
الحجارة المثقوب أيضاً
الى جانب كل عجلة
في القشّ
الذي يطقطق
قرب الضياء.
4
النار
هذه النار
التي تعود تشتعل
خلف الأرض المغلقة
أرتج مجدداً الباب الأبيض
الهبوب
الذي يأتي من الحقل
الضياء
اللجام.
5
الى الأسوأ،
العاصفة النائمة في جدار. الجبل،
الحصاة التي تدفن الجبل.

عندما يهبط الليل، تتغطى الدرب اللامجدية،
ببلدان سوداء، تتكاثر.
شدتُ صيفاً في بضعة أيام، فوق يديّ، فوق الأرض.
قبل بياض الشمس
قبل أن يكون بياض الشمس قريباً
كيديك، أسرعتُ بدون أن أنطفىء.
في ظُلمة النهار، كل شيء، على هذه الدرب، ليس سوى سقوط،
وشظايا حتى ينصهر
المساء
لم تقطع دربنا الحرارة التي
تُرجعنا،
مشرقين. بدون أن تتوقف عند هذه الحرارة. الدرب التي أتيه فيها أيضاً تتقدّمني كالريح.
أجهل الدرب التي ينقطع عليها نفسنا
النهار يحيط بي، وهو يغيب.
يدي التي شُفِيت الآن، تكاد تشقّ الجفاف،
التوهجّ.
المحرّك الأبيض
1
نزعتُ بسرعة
هذا  النوع من التضميد الاعتباطي
وجدتني مجدداً
حراً
وبلا أمل
مثل حزمة حطب
أو حجر
أشعّ
مع حرارة الحجر
الذي يُشبه البرد
تجاه جسم الحقل
لكنني أعرف الحرارة والبرد
وأطراف النار
النار التي أرى
رأسها
والأعضاء البيضاء.
II
النار تثقب في نقاط عدة جانب السماء الأصم،
الجانب الذي لم أره فقط.
السماء التي ترتفع قليلا فوق الأرض… بوجهٍ
أسود. لا أعرف إن كنتُ هنا
أو هناك،
في الجوّ أو في الأخدود. إنها قِطَعٌ
من الجوّ أدوسها كمدرة.
حياتي تتوقف مع الجدار، أو تشرع في السير
حيث يتوقّف الجدار، في السماء المنفجرة. لا أهدأ.
III
حكايتي ستكون الغُصن الأسود
الذي يشكل مرفقاً في السماء.
IV
إنه هنا، يفتح فمه الأبيض. هناك، يقاوم
على طول الخطّ، مع تلك الأشجار المقطوعة، هذه الكائنات السوداء، هناك أيضاً، يأخذ شكلَ التعب الثقيل والحار، كأعضاء الأرض التي سلخها محراث.
أتوقف لِصق نَفَسي، كما لصقَ
باب، لأسمع صراخه.
هنا، في الخارج، ثمة يد علينا، محيط ثقيل
وبارد، كأننا في رفقة الحجارة.
V
أخرج
في الغرفة
كما لو كنتُ في الخارج
بين قِطع الأثاث
الجامدة
في الحرارة التي ترتعش
وحدها
خارج نارها
لا شيء دائماً
هناك
الريح.
VI
أسير، منضماً الى النار، في الورقة الملتبسة الممزوجة بالهواء، والارض المعطلة عن العمل. أمدّ يدي للريح.
لا أمضي الى أبعد من ورقتي. بعيداً جداً قدامي،
تردم ورقتي وهدة. على بعد أقل في الحقل، نحن تقريباً متساويان. شبه راكعين على الحجارة.
في القرب، يتحدّثون عن جُرح، يتحدثون عن شجرة.
أتعرّف الى نفسي. كي لا أكون مجنوناً. كي لا تصبح عيناي في مثل ضعف الأرض.
VII
أنا في الحقل
كقطرة ماء
على حديد محمّى
هو نفسه يتوارى
الحجارة تنبسط
مثل كدْس صحونٍ
نمسكها
بأيدينا
عندما يعصف المساء
أظلّ
مع هذه الصحون البيضاء والباردة
كأني أمسك الارض
ذاتها
بيدي.
VIII
العناكب تُسرع الآن عليّ، على الأرض
المجزّأة. أنهض مستقيماً فوق الأراضي المحروثة،
على الموجات القصيرة والجافة،
لحقل مكتمل
وأصبح مزرقّاً، حيث اسير بدون سهولة.
IX
لا شيء يكفيني. وأنا لا اكفي شيئاً. النار التي تلهث، ستكون ثمرة ذلك النهار، على الدرب المنصهرة التي نجحت في أن تصير بيضاء في أعين الحجارة المصدومة.
X
أفرمل لأشاهد الحقل الفارغ، السماء فوق الجدار. بين الهواء والحجر، أدخل في حقل بدون جدار. أحس بجلد الهواء، ومع ذلك نظل منفصلين.
خارجنا، ليس ثمة نار.
XI
صفحة بيضاء عريضة مرتعشة
في الضياء المكتسح القوي
حتى نتقارب.
XII
مبتعداً عن الباب الحار، ومقبص الحديد، وجدتني أمام ضجيج بلا نهاية، امام جرّار.
ألمس قعر مجرى خشن، لا أبدأ. لقد عشت دائماً. أرى الحجارة بوضوح، ولاسيما الظل الذي يتراصّ، ظل الأرض الأحمر على الاصابع حين يكون هشاً، تحت استارها والذي لم تخفه عنا الحرارة.
XIII
هذه النار، كجدار اكثر ملاسةً في امتداد عمودي للأخرى ومصدوم بعنف حتى الذروة حيث تعشي ابصارنا، كجدار لا اتركه يتحجر.
الارض ترفع رأسها القاسي.
هذه النار كيد مفتوحة ارفض ان امنحها اسما.
وإن تكن الحقيقة. برزت بيننا كزاوية وفصلتنا، فلأنني كنت جد قريب من تلك الحرارة، تلك النار.
XIV
إذ ذاك ابصرت شظايا الريح، اقراص الخبز المكسور الكبيرة، في البلد الاسمر، كمطرقة خارج
غلافها تسبح بعكس التيار الهادىء الذي لا نلاحظ غير مجراه الخشن، الدرب.
هذه هي الشظايا الدقيقة، الصفائح الكبيرة التي خلّفتها الريح.

الحجارة منصوبة، العشب ساجد. وما لا اعرف له وجهاً ولا قفا، حالما يصمت: انت، كما الليل.
إنك تبتعد.
هذه النار المطلقة، هذه النار التي لم تستنفد والتي تحرقنا، كشجرة بمحاذاة تلعة.
XV
ما يبقى بعد النار، هي الحجارة غير الجديرة، الحجارة الباردة، عملة الرماد في الحقل.
ثمة ايضا هيكل الزبد الذي يطقطق
كأنه كان ينبجس ثانية من الشجرة الراسخة في الارض بأظفار مثلّمة، وذلك الرأس الذي
ينبثق وينتظم، والصمت الذي يسألنا بالحاح كحقل كبير.
ما أحرقه المصباح
كجرح يتكرر
الضياء
حيث نغوص
الظل
الذي يقدره الجبل
ارتفاع الظل
بدأت
اكون
هذه الفتيلة الشاحبة
الارض
حيث يمر
كم الريح
اتبدد بدون أن أهجر ناري،
على منحدر
مستقيم.
من الحجر. فمي اليوم جديد. في آخر
النزول، اعيد الكرة.
كسقف ننظر اليه في مرآة، أجمع
انعكاسات الجبل.
الضياء في القسم المظلم من الحجرة، في زاوية معتمة حيث ترتفع الطاولة.
طريق، كسيل مقطوع النفَس. أهب
الحجارة نَفَسي. اتقدم، والظلال على الكتفين.

نتعرف الى بعضنا من تعبنا، من خشب
الأعضاء، من المحرقة التي هجرتها النار فجأة،
والباردة في قلب النهار. نشعر بالبرد. ثم أدرت ظهري للذين يتعانقون.
منجلنا يتجاوز الحقل. نسرع اكثر من الدروب. اكثر
من عربة. كسرعة البَرْد.
يظهر البلد الآن. لا اتوقف. ارى الطريق التي لم نسلكها عبر وجوهنا.
عندما لا ارى شيئاً، ارى الهواء. امسك بأكمام البرد.
خمر النهار
خمر النهار تغويني
في وسط النهار
الوسط الأحمر
مع درب في المؤخرة
ودحرجة الخردة
التي تخصّني
آنية
الارض
تنهار
كمنزل
تحت الخطى

وأتوقف
كلما تطن
على حدقة الحجارة.
مصراع
رحى الصيف الآخر تشع. كوجه الأرض
الذي لا نراه.
اعود الى الطريق التي تبدأ قبلي.
كنار ثابتة في الهواء الساكن،
الهواء الذي يدوم فوق الطريق.
كل شيء اختفى. هناك الحرارة الآن.
تعصف الزوبعة، بدون ماء. يضيق نفَس المجلدات
بدون اشعال القش الذي يغطّي الحقل.
هذا المنزل في الزوبعة الاخرى. كجدار بارد في وسط الصيف.
نحو القش. نحو جدار أصياف كثيرة، كألق القش في كثافة الصيف.
إيماض
هذه النار التي تتقدمنا في الصيف، كدرب
ممزقة. وبرد الزوبعة الفجائي.
الى حيث أوصل هذه الحرارة،
في الخارج، أوثقتُ الريح.
القش الذي نظل مستندين اليه، هو القش
بعد المنجل.
أفضل الهواء والدروب، كالصيف حيث برد الصيف يعبر. كل شيء احترق.
*
النهار الذي ينفتح على هذا التمزق، كنار منفجرة.
من اجل الذي يتوقف في اماكن بعيدة. الفراش نفسه، المنجل نفسه، والريح نفسها.
وجه الحرارة
موقوفاً،
الى أن يكون هذا الجو، في اشراقه، اكتشفني هنا، أتعثر بالحرارة التي تصعد الى جبهة الحجارة.
قبل ان تكون السماء
قد جفّت.
كمثل الجو الذي يخترقه هذا الضياء، في ظلمة الحرارة.
فرجة
وجهنا، كجدار، تصدمه النار ذاتها.
كالبرد في الافق المتراص.
ألمس، على الارض المضغوطة، هذا الجبين
الذي يرتفع الى جانبي.
البعد الآخر الذي يعيد صدى الجبين، عبر هذه الحرارة الهائلة، اشبه بجسد الصيف الضئيل.
كل شيء يفر عبر الماء الساكن، من عصفات الهواء.
الارض الموثوقة، ردّت الينا مشتعلة.
لم اتعود النهار
الا في آخر النهار.
النار تشتعل اليوم باسم آخر.
تسوية
احتفظ بذكرى الندى على تلك الدرب التي لم أوجد فيها،
في يأس الريح التي تتجدد.
هذه السماء، في المكان المسحوق الذي ينمّ
عن آخر رمقه.
في المدى،
الذي أجده امامي،
حتى وانا نائم، عشت البارحة.
تستقبلني الارض، كامتداد الدرب التي يمكن ان اراها.
ابقى طويلا في وسط النهار.
اللقاطة
في هذا النهار الطويل
كما في عز الصيف، حيث البعد، ذلك النصل الضيق، سينبثق.
نحوها.
أو نحو الصيف الجليدي، وليس في اثرها.
الطريق هنا
بدون حمية، تهرع.
ما يجلّده المنجل، وما يسلخ،
ينتهي فجأة في النار.
الغيم لا يتحرك، الجدران تتصادم
في الريح.
لم استيقظ على الدرب التي انتزعتها
من الشمس، من كل الجهات، تعود.
– إن استندت، تشتعل.
لكن الدرب التي تبتعد
بلا نهاية، تحوق بي. كالسماء، راجلة، حين يجف الليل
– لا شيء يفصلنا.
مضغوطا اكثر
من الغيم، في الطرق المتغطية بغبار
ناعم وبارد،
السقف الذي اردته يتراجع.
طول الموقد يبهر، بينما هي
تتأخر على هذه الطرق، حيث، عند الحجارة الاولى،
امتلكت جسداً ■
اندره دو بوشيه
(التقديم والترجمة: هنري فريد صعب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى