عن دمشق المدينة والعاصمة والثقافة
وقائع داخلية، تزامنت مصادفةً مؤخراً في سوريا، لتساهم في تسليط الضوء على أحوال البلد الثقافية والسياسية. كان أبرزها اعتقال عدد من النشطاء السياسيين ممن تصدروا واجهة العمل الديمقراطي المعارض، وهم بغالبيتهم من ذوي التجارب السياسية السابقة ومعروفين في أوساط مهتمة بمساهمات ثقافية وصحافية.
ما جعل الكثير ينظر، محقاً، في الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية، ضرباً من التناقض بين الاحتفاء بالثقافة وسجن مثقفين معارضين. كما الضجة الصحافية التي أثيرت بسبب قدوم الفنانة القديرة “فيروز” للمشاركة في احتفالية دمشق وجعلت العديد يرى في ذلك، وبقدر من التهويل والمبالغة، غناء في بلاط السلطان.
هذه الصدف تذهب بنا إلى لب المعضلة، أعني العلاقة بين الثقافة والسلطة في سوريا، كما بين العاصمة والدولة والنظام و بين المدينة والثقافة. هنا أفكار أولية حول موقع مدينة دمشق في إنتاج الثقافة والسلطة والسياسة في سوريا المعاصرة.
من الضروري، في البدء، التذكير بما طرأ على وجه وملامح المدينة خلال العقود المنصرمة، الأمر الذي يبرر لنا سبب الذهاب إلى وجه المدينة القديم والتاريخي بدل الوقوف بجدية وجرأة عما أصابها من تغيرات عميقة طالت مناحيها كافة ومبانيها السياسية والاجتماعية والعمرانية في سيرورة أثقلت كاهل المدينة بالمزيد من أعباء السياسات “الثورية” الخارجية، وتلك المتشددة داخلياً. جرى ذلك لأسباب خارجة عن إرادة الحاكمين أيضاً ولا ترتد إلى تلك السياسة وحدها، ما أفضى للاستغناء عن دور المدينة المتميز في تاريخ سوريا المعاصر وتحديداً منذ عهود ما بعد الاستقلال ومشروع الدولة الوطنية الحديثة، الذي مازال راهناً بكل المعاني. ومن اللافت أن دمشق لم تعد تعرف وتعرف إلا بدلالة شعاراتها السياسية الصاخبة “قلعة الصمود والتصدي وعاصمة المقاومة العربية والإسلامية….” أو تنسب إلى حكّامها وتسجل بأسمائهم، لا مدينة الثقافة و العمران والتمدن. وقد أشار الباحث السوري ياسين الحاج صالح قبلاً إلى أن عاصمة سوريا تمثلت في شخص رئيسها الراحل حافظ الأسد، لا في مدينة دمشق. والحقيقة ان ذلك لم يكن ممكناً لولا أن مؤسس النظام الحالي، عمد، طوال سني حكمه، الى تطويع كل شيء في سوريا لصالح سلطته وسياسته معتمداً على شبكة أمنية ـ عسكريّة حديثة العهد بالسياسة ومن خارجها،على حساب الفئات المدينية التي سرعان ما هجرت عالم السياسة كليّاً بعد حكم العسكر، الذي سيتقلّص لاحقاً إلى حكم الأجهزة الأمنية وحدها، وفيما بعد إلى حلقات أضيق فأضيق. فتأخذ السياسة بكليتها، لا السلطة فحسب، مظهر تنين (حسب تشبيه “هوبز” دولته بالتنين) يتولى إخفاء السياسة الحقيقية و”عسكرة” المجتمع لا تفيد إلا في بث الرعب في أوصاله، وما سينجم عن ذلك من حصار حقيقي للثقافة والسياسة.
وبمقتضى السياسات الاقتصادية المتبعة وتلك الهادفة لمركزة البلاد كلها حول السلطة وحدها، بغية إحكام وضمان السيطرة السياسية والأمنية “إلى الأبد”، لا على مثال الدولة الممركزة جيداً حول نظام سياسي ـ ثقافي صارم وعقيدةٍ وطنية تعبوية، جرى ترييف كامل للمدينة، بدل تطوير الريف وتمدينه الذي توقف عند إجراءات وتدابير أولية من بدايات الحكم البعثي لصالح القطاع الزراعي أساساً وبعض الخدمات في الأرياف، مع ما رافق ذلك من تشوه وانحياز في بعض المناطق (الكردية مثلاً). زاد من وطأة ذلك عوامل عدّة كتعاظم دور “اللصقراطية” المزدهرة في كنف السلطة المطلقة التي زادت تكوراً حول نواتها المركزية (ألم يقل: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة؟) وأخرى خارجة عن إرادة السلطات ذاتها. كالأزمة الاقتصادية التي عاشها البلد(وما يزال) بسبب توقف عوائد النفط التي أغدقت على سوريا غداة حرب تشرين 1973. كما يعيد أحدهم “بعض السبب في انكماش المدن السورية، قياساً على حركة التمدين العامة، إلى عزلة الاقتصاد السوري وانغلاقه، وإلى ضعف الاندماج الاقتصادي في الشرقين الأدنى والأوسط”. (على ما ورد في قراءة المفكر اللبناني وضاح شرارة لكتاب صادر حديثاً بالفرنسية بعنوان “سوريا حاضراً، ظلال مجتمع في المرآة”، دار سندباد، أكت سود، 2007، باريس، بمشاركة ستين باحثاً. قراءة وتحليل شرارة منشور على ثلاث حلقات في “نوافذ” المستقبل (21 تشرين الأول (25 تشرين الثاني) 9 كانون الأول من العام 2007).
ومن أمارات انكفاء دمشق عن عملية الإنتاج الثقافي والحضاري، بما يليق بأقدم مدينة مأهولة عبر التاريخ، يلاحظ ضعف قدرة المدينة على المساهمة في الإنتاج الثقافي العربي مقارنة بعواصم عربية مجاورة. (معظم، إن لم نقل جميع المفكرين والمثقفين السوريين يعيشون خارج سوريا أو خارج الأطر الثقافية الرسمية). يكفي أن ننظر إلى تلك الحشود والمجاميع الطلابية في الأبنية المسماة مجازاً “جامعات” و بعض ما يسمى بمراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية وأحوال “المؤسسات” الثقافيّة الرسمية، كوزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب و الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، والقائمين على إدارتها والترهل المصاب بها. وهل من المصادفة أن تنتعش ثقافة الإيماء والإيحاء كالفنون التشكيلية وبعض مجالات الأدب بالمقارنة مع العلوم الاجتماعية والسياسية لما تستلزم من حرية التفكير والبحث والمناقشة والكتابة؟.
من جهة أخرى، ونظراً لكون سوريا منبت الدعوة القومية العربية وكذلك مركز انطلاق الدعوة الشيوعية في العالم العربي والإسلام الفقهي “المعتدل نسبياً” قبل أن يؤدلج وينزع إلى الهيمنة والشمولية… وكلها عابرة للأقطار والحدود ولا تنظر إلى المجتمعات إلا بوصفها كتلاً ثابتة تنتظر من يأخذ بيدها إلى الخلاص، وغلبة المنظور السياسوي على الفكر، لكل ذلك وقعت الثقافة السياسية السورية، في شطرها الأعم، في فلك وشرك العموميات (إن جاز التعبير). وعلى نحوٍ بارز، يتبدى ذلك في عدم قدرة أجيال من المثقفين على تطوير معرفة كافية بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي القائم على الأرض، بدل الاطمئنان التام لوثوقية الحلول المجترحة لواقع معقد ومتحرك، ولا تنقصه الوصفات الجاهزة وأحادية النظر والرؤية والتي تراءت لنا نظريات وفلسفات كبيرة و ما هي في حقيقتها سوى أفكار وإيديولوجيات عامة وقد اختزلت إلى شعارات سياسية ودعوية.
ولمشكك أن ينظر إلى نتاج جيراننا المثقفين والسياسيين في بلدان عربية مجاورة لتقدير وان المعرفة التي قدمتها الإيديولوجيات الشمولية ـ (القومية والماركسية والإسلامية) ـ بصدد المجتمع السوري. وبدل الكلام على المجتمع ترد كلماتٌ غامضة على وزن “الشارع” و”الجماهير” و”الأصالة” وأخرى فضفاضة شوهتها البلاغة والخطابة من قبيل “الشعب” و”الأمة” …
من جهة ثانية، لم تعد المدينة بقادرة على تطبيع سكانها بطبعتها المدنية المفترضة، إنما هي التي تأخذ صورة “موزاييكية” عن سكانها (غير جميلة كثيراً ودائماً) ولا تقدر على إعطائهم شيئاً من مدنيتها. وتزداد صورة المدينة تشوهاً، يوماً بعد يوم، في ظل التزايد السكاني الهائل والأوضاع الشاذة للجاليات الفلسطينية منذ نصف قرن، والنازحين العراقيين بعد الحرب والاحتلال وتحارب العراقيين ضد بعضهم البعض، فضلاً عن غياب قوانين ناظمة للسكن وأنظمة مرور مناسبة. ومن المفارقات حقاً ألا يرتادها كثيرون من أبناء المناطق الأخرى إلا بقصد الاستشفاء الذي لا يتفوّق على مثيله فيها إلا لتدهور الخدمات الطبية اللائقة في أطراف البلاد.
هذه إحدى المفارقات في دور دمشق المدينة. فحتى قبل قرنٍ من الزمان، ما زالت خاضعة لعلاقات شبه إقطاعية وأهلية متوارثة عن نظام السلطنة العثمانية وفي إطارها. كان يمكن لدمشق أن تخضع ساكنيها الأصليين والجدد لبوتقتها. (يوجد حي كبير باسم المهاجرين، نسبة لمهاجرين من شمال أفريقيا وألبانيا و جزيرة كريت وبلدان شتى. وكذلك غيره من الأحياء، حتى أن بعض الأسر التي لعبت دوراً بارزاً في الحياة السياسية والاقتصادية للمدينة، وعبرها في البلاد عموماً، تعود بأصولها غير البعيدة إلى خارج دمشق وبعضها إلى تركيا. وكان لمصادمات أهلية عنيفة، حدثت في شروط معلومة، أن تطوي صفحتها ولا تخلف عقابيل مؤثرة في النسيج الاجتماعي للمدينة).
أما بعد ظهور الحكومات الوطنية، سواء التي تلت جلاء القوات الفرنسية عن سوريا مباشرة أو تلك الثورية،لا سيما في عصر “الاستقرار” الذي ينعم به السوريون منذ عام 0197، وتشديد القبضة الدولتية ـ السلطوية، وإخضاع المدن والأطراف السورية جميعاً إلى مركزية العاصمة المتشدّدة، لم يفض الى تعزيز دور العاصمة في تعميم ثقافة وطنية تجمع السوريين (عدا ثقافة الخوف) حول انتماء وطني جامع فوق الاعتبارات الأدنى ولا زادت من القدرة على تحقيق دمجٍ اجتماعي وثقافي في إطارها وإهابها، وهو من أدوار المدن المفترضة، ولا غرابة، والحال هذه، أن تكون الضريبة الكبرى على عاتق المدنية والثقافة وما سيترتب على ذلك من نتائج قاسية طالت مجمل الفاعلية السياسية والثقافية للبلاد، لا سيما بعد الزحف السكاني على العاصمة (أحزمة الفقر في محيط المدينة ومركزها!) وتكريس مظاهر الانكفاء والنكوص المجتمعي إلى الروابط المناطقية والأهلية الضيقة، كحصيلة متوقعة لتجويف المجتمع سياسياً وثقافياً ومعنوياً. كل ذلك ينذر، باحتمال تنامي حوادث عنف وتطرف بين الأفراد والجماعات، يصعب أن تكون بمنأى عن لوثة الطائفية والمناطقية والمذهبية والإثنية على ما أوحت به حوادث متفرقة في عموم البلاد.
وإذا كان الاستقرار المجتمعي والسياسي شرط التطور الثقافي والحضاري، الذي لا غنى عنه، في أية بقعة من أرجاء المعمورة قديماً وحديثاً، وكما هي سنة جميع المجتمعات والثقافات، فإن سوريا، تشذ عن هذه القاعدة، أيضاً. فلم يحصل السوريون من هذا “الاستقرار” المزعوم غير الاستنقاع السياسي والتخثر الثقافي والاحتقان الاجتماعي وتفكك الروابط الجامعة. فـ”الاستقرار” مثله، مثل كل شيء، له خصوصيته في سوريا. حتى الديمقراطية قيل إنها موجودة لدينا لكن بخصوصية “وطنية” سورية، على زعم شراح وفقهاء الديمقراطيات الخاصة جداً جداً.
…في جلبة هذه الخطابة السياسية الهادرة، والثقافة القائمة على اهدار الحرية والإنسان، كيف ستعيش الثقافة والمعرفة؟ ومتى تتعرف سوريا الى مكانتها الحضارية، وتنهض بدورها اللائق؟
المستقبل – الاحد 9 آذار 2008