صفحات مختارة

مساحة العقلانية المحاصرة

احمد جابر
يردد البعض كلمة العقلانية بصوت خافت، كلما علا ضجيج الأحداث القومية والوطنية الكبرى، أو لدى اشتداد وتيرة الصراعات الداخلية وارتفاع نبرتها… وأحياناً تستبدل كلمة العقلانية بمفردة الواقعية، أو «المنطق السليم»، أو دقة الحسابات… لأن العقلانية، بما هي مفهوم، أو دعوة إلى خيار مختلف، صارت في قفص الاتهام السياسي، الشعبوي واللفظي والمغامر…
لكي يظل الكلام على الجادة، تتلازم عقلانية التفكير مع عملية إجراء الحسابات، وتدقيقها ومراجعتها في الممارسة. برودة الحسابات، والتوقف ملياً أمام موازينها، لا يلغيان حرارة المتدخلين فيها، والمشرفين على إجرائها… لأن المقصود، هو النجاح، في نهاية كل عملية سياسية، لذلك، عندما توصف العقلانية غالباً بالواقعية، فلأنها تؤسس على ملموسات الواقع ومحسوساته، دون أن تتقيد حرفياً، وحصرياً بمعطيات التحليل. بناءً عليه، تدخل على الممارسة العملية، بعد استنفاد التدقيق الفكري، كلمة الإقدام المحسوب، الذي يستشرف نتائج إضافية، لا يقدمها التحليل، بل يوفرها العامل الذاتي العملي، دون أن يصل الاستشراف إلى حد «الرجم بالغيب»… كذلك قد تقيد الممارسة، ذاتها، بنكوص، لا تستلزمه عناصرها، فيصير الإحجام «المحسوب» سمة لها، دون أن يترافق ذلك مع نعوت شخصية، أو صفات أخلاقية، من قبيل الجبن وما إلى ذلك…
مع الإقدام والإحجام، تحضر ممارسة عملية ثالثة، هي المغامرة، التي تحمّل الحسابات والتدقيقات فوق طاقتها، مراهنة على قوة حضور الذاتي، وأهمية استنباته وتوليده عناصر إيجابية غير مرئية، وغير متضمنة في ما تقدمه اللوحة المعاينة من وقائع. فتوصف تلك السياسة أحياناً بالإرادوية، ولا يصل الأمر إلى اتهام أصحابها بالمقامرة أو الجنون…
أين يقف الظرف السياسي، العربي الحالي، من نظرة كهذه؟ الجواب الأولي يقول: إن الدعوة إلى العقلانية مرذولة ومستبعدة، لأنها في عرف خصومها، محبطة وتدعو الجمهور إلى ممارسة سياسية، وهي أقرب إلى الاستسلام، باسم الواقعية.
لكن لماذا يسهل اتهام العقلانية السياسية، بالقصور وبالارتداد وبالقبول بالحد الأدنى المعروض، في كل قضية؟ هناك عدة عوامل تسهم في تعبيد السبيل أمام المرافعة الاتهامية، منها:
أ ـ اشتداد حدة الصراع، وإقفال آفاقه دون أية تسويات محتملة، ممكنة، تتوفر على الحد الأدنى المطلوب، من العدالة والإنصاف، مما يحسن تقديمه كإنجاز وطني عام، لسياسة بعينها، ولبرامج سياسية مواكبة لها… هذا مثلاً، واقع القضية الفلسطينية، التي لا تعد السياسات التي تقاربها بأي إنجاز، بسبب اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل أولاً، وبسبب الظرفين، العربي والفلسطيني، استطراداً…
ب ـ العجز الفعلي والواقعي، عن توليد بدائل فكرية وسياسية، وممارسة سياسة هروب من مواجهة واقع العجز، إلى تجاوزه لفظياً وشعارياً، بالاستناد إلى منظومة تبريرات جاهزة، تتحول معها «الفكرة إلى أيديولوجيا»، ويستبدل معها الواقع القائم، بواقع آخر متخيل.
ج ـ الترحال الثقافي، الذي يقدم عليه جمع من المثقفين، عند المنعطفات السياسية الكبرى، وفي مواجهة التحديات الفكرية الناجمة عنها، إذ كثيراً ما توزع ذلك الجمع، بين الانضمام إلى السائد والتسليم بأحكامه، وبين العودة إلى مراجعة أفكاره «التقدمية»، مراجعة ارتكاسية، تقارب النقد الذاتي، على ما بدا من التماعات فكرية، خالفت الموروث وخرجت على المألوف، خاصة في صعيده الشعبي، الحافل بكل منوعات الإيديولوجيات الغيبية.
د ـ اكتفاء بعض المتمسكين بالعقلانية، والداعين إليها، بطرح الأفكار، دون الانتقال إلى عالم الممارسة، مما يجعل هؤلاء أقرب إلى الدعاة و«الناصحين»، الذين يطمحون إلى حمل آرائهم، من قبل قوى غيرهم. أي أنهم يفصلون لبوساً على مقاسهم، ويقترحونه على أجساد الآخرين…
هذا يعيد الاعتبار إلى السياق الاجتماعي، الموضوعي الآخر، الذي مكّن العقلانية من توسيع مساحاتها، فلقد عرفت هذه الأخيرة بعض «الازدهار» مع تقدم الأفكار والمشاريع النضالية المناوئة للاستعمال الأجنبي، والتي نهلت من معين «حداثي»، لأنها ربطت بين التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي. كان من الطبيعي، أن يترافق ذلك مع نشوء الأحزاب، ذات المنشأ «العقلاني»، ومع زيادة حضور مفردات الحرية وتعبيراتها عن ذاتها في مؤسسات «مجتمع مدني، ووسائل دعاية وجذب مختلفة»… مما أسهم لفترة، في محاصرة «التقليد»، الذي جعل الماضي، والماضي فقط، الديني والاجتماعي، مرجعاً أوحد له.
إن العقلانية المحاصرة، راهناً، من قبل انتعاش المشاريع والأفكار التراثية، حوصرت سابقاً، عندما سوّرها أبناؤها بأسوار الجمود العقائدي، وعندما أشعلوا، باسمها وتحت رايتها، النار في موضوعيتها… من خلال كل ممارساتهم اللاعقلانية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى