صبحي حديديصفحات أخرى

يوم 11/9 الآخر

صبحي حديدي
ليس تاريخ الهجمات الشهيرة على برجَيْ نيويورك ومبنى البنتاغون فقط، بل هنالك يوم 11/9 آخر شهير، يعود إلى سنة 1971 هذه المرّة، شهد انقضاض الطغمة العسكرية التشيلية على التجربة الديمقراطية الفتية في ذلك البلد، وإجهاضها، واغتيال الرئيس الشرعي المنتخَب سلفادور ألليندي، الإشتراكي وزعيم تحالف ‘الوحدة الشعبية’، بدعم مباشر من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بموافقة الرئيس ريشارد نكسون، وتنظير جيو ـ سياسي وفلسفي من أحد أشهر وزراء خارجية الولايات المتحدة: هنري كيسنجر.
قبل ذلك اليوم المشؤوم، كانت تشيلي الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية، إذْ أنجزت انتخابات رئاسية، وانتخابات برلمانية بمجلسَيْن، وأتاحت ازدهار صحافة حرّة وحيوية. بعد 11/9، إثر الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه، تمّ حلّ البرلمان، وتأسيس جهاز أمن سرّي سارع إلى شنّ حملات اعتقال واسعة النطاق، وتعيين حكّام عسكريين لإدارة الجامعات، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، و… حظر الإستماع إلى أسطوانات المغنّي والموسيقيّ والشاعر والأستاذ الجامعي فكتور خارا.
وكان خارا قد اعتُقل صبيحة اليوم الثاني للإنقلاب، في حرم جامعة سانتياغو، واقتيد مع آلاف من الطلاب إلى ستاد رياضي، حيث شرع الجلادون في تكسير أصابعه، رمز غيتاره وموسيقاه الشعبية الملتزمة، باستخدام الهراوات وأعقاب البنادق. وفي ختام ثلاثة أيام من الإذلال والتجويع والتعذيب الوحشي، استشهد خارا رمياً بالرصاص، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، ليس قبل أن يفلح في كتابة قصيدة أخيرة، أخفاها في حذاء أحد السجناء، وختمها هكذا: ‘ولسوف تزهر اللحظة! سوف تزهر اللحظة!’…
وقبل أشهر، في 15 أيار (مايو) وجّه القاضي خوان إدواردو فوينتيس تهمة القتل العمد إلى العقيد ماريو مانريكيز، الضابط المسؤول عن السجن الذي شهد اغتيال خارا، وطلب الإبقاء على العقيد قيد الإعتقال حتى استكمال أسماء المتورطين معه في تلك الجريمة. وبهذا فإنّ مانريكيز ينضمّ إلى قافلة مجرمي الحرب الذين وأدوا ربيع تشيلي الديمقراطي، وظنّوا أنّ دعم واشنطن والمخابرات المركزية الأمريكية كفيل بمنحهم حصانة أبدية. وبالطبع، أشهر هؤلاء كان الجنرال بينوشيه نفسه، كبيرهم الذي علّمهم السحر وأباح لهم الإعتقال الجماعي والإعدام الصوري، حين تمّ توقيفه في لندن، خريف 1998، بناء على مذكّرة وقّعها القاضي الإسباني بالتازار غارزون، وتضمنت اتهام الجنرال المتقاعد بارتكاب المذابح الجماعية والإرهاب الدولي والتعذيب والخطف.
‘إنه خبر سيء للدكتاتوريات’، هكذا اعتبر معظم المشتغلين بالقانون الدولي في التعليق على قرار اللجنة القضائية التابعة لمجلس اللوردات البريطاني، والذي قضى بحجب مبدأ الحصانة الدبلوماسية عن الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه، وشرّع بالتالي إمكانية تقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية. لكنّ الإجماع على شكل القرار تفاوت وتنوّع وتضارب في ما يخصّ المحتوى، فأنقسم الرأي إلى فريقين، يشكّل كلّ منهما معسكراً حقوقياً، وأخلاقياً، وسياسياً: الأوّل يفتي بوجوب تقديم الدكتاتوريات إلى المحاكمة بتهمة واحدة كافية هي انتهاك حقوق الإنسان (الأمر الذي أتاح ارتفاع أصوات تطالب بمحاكمة فيديل كاسترو وصدّام حسين مثلاً)؛ والثاني يقول بوجوب توسيع لائحة الإتهام بحيث لا تقتصر على مبدأ انتهاك حقوق الإنسان، بل تشمل مختلف أنواع الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وبينها أو على رأسها الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر المنظمة (في هذه الحال، ثمة أكثر من أساس قانوني يتيح محاكمة الملكة إليزابيث على ما ارتكبته قوّات التاج البريطاني من فظائع في إيرلندا، أو محاكمة جورج بوش الأب على ما ارتكبته القوّات الأمريكية من فظائع بحقّ المدنيين العراقيين العزّل، أو محاكمة أرييل شارون على دور جيش الغزو الإسرائيلي في مجازر صبرا وشاتيلا، هذا إذا وضعنا جانباً عشرات الأمثلة المشابهة التي يحفل بها التاريخ الكولونيالي لدول مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا).
ولقد بدا عجيباً أن تنقضّ جميع السكاكين على هذا الثور العجوز، أوغستو بينوشيه، في حين أنّ السادة الأمريكيين الذين شاطروه وزر تلك الجرائم يواصلون التمتّع بنوع خاصّ للغاية من الحصانة المطلقة التي تغسل أيديهم تماماً من أدوار قذرة شتى لعبوها وراء الجنرال، وإلى جانبه، وأمامه في حالات عديدة. رجل مثل كيسنجر لم يصبه من قضية محاكمة بينوشيه أيّ أذى، هو القائل، بلسان بارد كالصقيع، إن الولايات المتحدة في موقفها من إنقلاب تشيلي كانت ‘مخيّرة بين الديمقراطية والإقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الإقتصاد’.
والحال أنّ ذلك الثور العجوز الخائر كان مجرّد أداة منفّذة، صمّاء عمياء غاشمة، لم تبلغ أبداً شأو الدماغ الأعلى المخطّط، بالقياس إلى السادة في واشنطن. وهذا هو السبب في أنّ قضية بينوشيه لم تتحوّل إلى منبر عريض لمحاكمة حقبة السبعينيات في السياسة الخارجية الأمريكية، وإدانة مبدأ التدحّل المباشر في شؤون الدول الأخرى المستقلة، وفضح دسائس تخريب الديمقراطيات الوليدة هنا وهناك في العالم، مقابل صناعة الدكتاتوريات وحماية انظمة الإستبداد والفساد.
مفارقات اليوم، وهي كذلك بعض أشغال التاريخ ودروسه، أنّ تشيلي ديمقراطية مستقرّة، تقودها رئيسة إشتراكية منتخبة، وقضاؤها يعمل بحرّية، مثل صحافتها وأحزابها ونقاباتها وفنونها؛ وأنّ المغنّي الأمريكي الشهير بيتر سيغرز، أحد كبار أساتذة موسيقى الـ ‘فولك’، هو أوّل مَن أدّى قصيدة خارا الأخيرة باللغة الإنكليزية؛ والمكان، الذي شهد إعدام الشاعر المغنّي، صار اسمه الرسمي… ‘ستاد فكتور خارا’.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى