لماذا يسأل السوريون بعضهم عن مدينتهم الأصلية!
عمّار ديّوب
تكاثرت بين السوريين عادة السؤال عن اسم المدينة أو الحيّ أو القرية التي ينتمي إليها هذا الشخص أو ذاك.. سيما في العقد الأخير. فما أن يلتقي شخصان من بلادنا حتى يبدأ أحدهما بسؤال الآخر: من أين أنت؟ وأين تقع قريتك بالضبط؟ وهل تعرف فلاناً؟ وما هو مذهبك؟… الخ من الأسئلة التي تصب في اتجاه واحد.. ونتيجةّ لذلك، إما أن يستمر الحديث وتتمتّن العلاقة.. وإما أن يغادر أحدهما أو كلاهما الآخر وتندثر العلاقة قبل أن تولد.. وكأنها لم تكن.
(سيريا لايت) سألت عن سبب انتشار هذه الظاهرة.. وعادت بالإجابات التالية:
المدرّسة باسلة ترى أن الموضوع ربما يكون من باب الفضول أو رغبة في إيجاد الخطيب أو إنشاء علاقة تنتهي بالزواج أو كي يكون ممكناً الكلام بأريحية.
أما الآنسة ثناء فتجد أن الموضوع متعلق بالخوف من الآخر، فإذا كان الآخر ابن ذات المذهب يكون الأمر قد قُضيَ وعندها يمكن فتح كل المواضيع.. وإن كان من مذهب آخر، فلا بد من الحيطة والحذر والخوف.. وتضيف أن هناك أناساً لا يستطيعون إقامة أية صلات مع أشخاص من مذاهب أخرى.
ويؤكد المهندس وهيب، أن أي حديث يبقى في إطار السطحي والتافه و”التنقير” إلى أن تُعرف الهوية الدينية أو المذهبية للشخص الآخر، عندها يمكن “التغميق” دينياً أو سياسياً أو العكس تماماً. وفي رمضان يكون السؤال من أجل تحديد مذهب الآخر ومعرفة ما إذا كان صائماً أم لا… ويضيف أن الحديث الصريح ليس ممكناً مع أشخاص من مذاهب أخرى. ويُرجع ذلك إلى ما وصفها بظاهرة “الردة الدينية” المسيطرة حالياً، بينما كان الوضع مختلفاً في العقود السابقة حين ساد الفكر القومي واليساري فكانت العلاقات الاجتماعية منفتحة ومبنية على أسس سياسية أو تقدمية تخدم المصالح العامة للأفراد من مختلف الطوائف والمذاهب. ويشير وهيب إلى أن السؤال قد يكون من أجل تأمين المصالح الشخصية والرشاوى واللف والدوران والوصول إلى الأهداف بدون شوشرة.
أما الموظف عمار فيرى أن هذا السؤال يبرز من أجل التعرف على هوية الآخر، أو بحثاً عن نقاط مشتركة… تسهل الحوار. وهناك موضوع حماية الذات في مجتمع مليء بالمشكلات، حيث عدم الأمان ممكن دائماً، فقد نلتقي بشخصٍ من بيئةٍ دينيةٍ مخالفة أو يملك وجهة نظر مغايرة، ويؤكد أن هذا الموضوع ليس جديداً وإنما هو قديم فالناس دائماً يتساءلون عن ذلك.
وترى الصيدلانيّة نسرين، أن الموضوع يتعلق بوعي السائل، فحينما يمتلك مقداراً من هذا الوعي، لا يسأل عن ذلك، والعكس صحيح.. فكلما خفّ الوعي وتهمش، كثرت هذه الأسئلة. وقد يكون الفضول سبباً إضافياً، وعادةً ما يطرح العراقيون هذا السؤال، ويحاولون التعرّف على المذاهب الدينية السوريّة وأحياناً كي يعرفوا مذهب الآخر ويتحاشون التعامل معه فيما إذا كان مختلفاً عنهم، نظراً لفظاعة ما لاقوه ويلاقونه من تصفيات طائفية في العراق.. وأحياناً يكون السؤال من أجل الإسهاب في عرض مذهبه هو والدعوة إلى تمثّله على حساب المذهب الآخر.
ويجيب المهندس سامي، على هذا السؤال بسرد قصة لها دلالاتها، قائلاً: قبل ثلاثين عاماً، تواجدت في حيّنا فئات اجتماعية من كل الطوائف، ولم يكن أحد يفاضل المسلم على المسيحي أو غيرهما.. بل إن والدتي المسلمة حين توفيت، فتح لها باب العزاء للنساء في البيت المسيحي المجاور لبيتنا.. وأضاف: حين كان يأتي العيد كانوا يرسلون أولادهم إلى اللعب بالمراجيح سوية.. وكانوا أيضاً يذهبون مع أولاد الجيران إلى الكنيسة.. وكان التضامن والتآزر هو سيد الأحكام، وهؤلاء لم يكونوا، لا شيوعيين ولا بعثيين، ولا قوميين. أي أن تلك المرحلة كانت تتجاوز الانتماء الديني أو المذهبي إلى حد كبير جداً.. أما الآن فالمشكلة أصبحت لا تطاق.. فكل منّا يسأل عن انتماء الآخر.. وكأننا من كواكب مختلفة في الفضاء!!!.
ويقول المدرس يوسف، في هذا السياق: المجتمعات العربية بشكل عام مازالت علاقتها بالدولة هشّة، وذلك لأنها لم تستطع حتى الآن بناء دولة تقوم على أساس المواطنة الحقيقية، من حيث ماهيتها.. جوهرها.. وتركيبتها.. ولذلك نجد أن الإحساس بالانتماء إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب عادة ما يطغى على الانتماء للدولة.
هناك من رفض الإجابة عن هذا السؤال.. وطلب منا أن لا نسأله للآخرين، رغم إقراره بوجود المشكلة وبأنه كثيراً ما يسأل ذات السؤال.. مكتفياً بالقول: إن ما يُوطد أية علاقة هو الاحترام المتبادل والتفاهم والتعامل الأخلاقي بين الناس.. مؤكداً أن “الدين معاملة”.. ويكفي الإنسان أن يكون صادقاً، وصاحب ضمير، لا يكذب، ولا يسرق، ولا يسخر من عقائد الآخرين، ويعمل للصالح العام، وعندئذ ليكن من أي مذهب كان.
يمكنني القول مما تقدم إن كل رأي من هذه الآراء يمتلك نصيباً من الحقيقة، ولكن ما غاب عنها أن فكرة المواطنة والانتماء إلى الدولة لم تتجذر في الوعي العام والممارسات اليومية، وما زالت شبه غائبة عن أذهان المجتمعات العربية.. وبالمقابل، تستحوذ فكرة الطائفة والعشيرة على الوعي المجتمعي.. وربما يكون السؤال، ناتج عن شدّة الخوف من المستقبل وانعدام الرؤية السليمة في هذه المجتمعات.. وقد يكون نتاجاً لتراجع الفكر القوي واليساري بشكل عام سبباً مركزياً لهذه الردة الدينيّة التي تشهدها مجتمعاتنا العربية بشكل عام.
هذا الموضوع يقلقني كثيراً، ونادراً ما يمرّ يوم دون أن يخطر في بالي.. ولهذا وضعته عنواناً لتحقيقي هذا، وهنا أريد أن أطرح على القارئ الكريم تساؤلات أجدها مشروعة.. وقد يكون من المفيد أن يحاول الإجابة عليها بمفرده وهو يقرأ هذا التحقيق:
ماذا يعني أنني أنتمي لطائفة أو مذهب معين؟ وبأي ذنب أحاكم الآخر على انتمائه الطائفي أو المذهبي الذي لم يختره؟ ألست أعترض على إرادة الخالق الذي لم يسألنا عن الطائفة أو المذهب الذي نُفضّل عندما خلقنا؟! وما هي الضمانات التي يقدمها لي أبناء مذهبي لجهة العمل والتعليم ومستوى المعيشة والمسكن؟. أعتقد أن السؤال بهذه الطريقة يوضح هشاشة هذه الفكرة السائدة، وضرورة أن نبني علاقاتنا وفقاً للانتماء الإنساني أولاً ومن ثم للاحترام والكفاءة والهمّ الوطني المشترك.. دون أن أنفي أن تلك الانتماءات الما دون مواطنية، والتي عبّر عنها سؤال التحقيق، تؤمّن بعض المصالح الضيقة، ولكنّها تبقى لقلةٍ من البشر، ولا تشمل جميع أبناء الوطن الواحد.
إن التنوع والاختلاف ينبغي أن يكون عامل غنى وثراء ثقافي وفكري.. لا مصدر انكفاء وتعصب ورفض للآخر.