الصباط الصيني
زياد ابراهيم
الصباط الصيني- جلست احتسي فنجان القهوة الأبدي على مكتبي وأدخن ثلاث سجائر صباحية .
وبتكرار لا تخرقه هزة ارضية كنت اتوقع احداث اليوم بالترتيب واقول في صمت ربي اكسر هذا الملل ولو الى الاسوأ.
– كما توقعت دخل شريكي في المكتب على توقيت (بيغ بين) اليومي لا يتاخر دقيقة ولا يستعجلها.
ابتسم بحيوية مفرطة ورددت بابتسامة يرثى لها ,قال صباح الخير ورددت باشارة موافقة من يدي .
– شريكي شاب كندي طيب عفوي واحول بعض الشيء ,نتقاسم مكتبنا منذ خمسة اشهر ,ورغم اني رئيسه المباشر الا ان راتبه يضاعف راتبي لزوم فرق الجنسية واتقانه لغة فرنسية لا اعرف منها الا الشتائم ….. هو باسكال
الى هنا كل شيء متوقع ولا جديد.
– طارت عيناي بمفاجئة تكاد تكون لمظلي خذله الحظ .فأنا بحكم العادة اول ما تقع عيناي على مرء او امراة أدقق في الوجه والحذاء.
وما ان رايت حذاء الشريك حتى عصفت بي الذاكرة وغادرت المكان الى غير رجعة .
انه هو (صرخت) …عرفته من الابتسامة التي ايقظت كل الحب . انه ال (الصباط الصيني)
وما ان لاحظ باسكال اي رعب ارتسم على وجهي ,تراجع خطوة الى الوراء وقال (غود بليز يو), وماكاد يلفظ ال(يو) حتى شرعت استجوبه بارادة وتصميم نملة تدخر للشتاء.
سالته:هل تحاصركم اميركا ……… قال :لا
سالت: هل اتهموكم بزرع عبوة في احدى طائرات مطار هيثرو …….. قال : اكيد لا
سالت:هل تساندون الثورة الايرانية في حربها على العراق والخليج……قال :هذه الحرب انتهت
سالت:هل دخل جيشكم الى لبنان لوقف الحرب الاهلية …….قال :انها توقفت ولنا فيها سفير لا يفعل شيء الا السياحة.
ختمت بغضب وتأنيب: اذا لماذا ترتديه ايها الافاق.
وهنا عاد لي الوعي ……ماذا افعل؟
باغتني بسؤال :ماالذي حدث لك ,الكل مجمع انك بكامل قواك العقلية وزيادة عن اللزوم احيانا .
قلت له بتنهيدة يأس (اجلس ساروي لك)
انها قصة عشق مع الحذاء الذي تنتعله اراديا ,ونحن الذين تحملناه لا اراديا وطبع مرحلة صعبة من مراحل الصمود الاقتصادي لبلدي.
منذ ان بدأ الحصار على سوريا اواسط الثمانينات ولم نكن بعد دولة مصنعة للاحذية ,بدأ الفقراء بالبحث عن بديل للحذاء الرياضي المكلف نسبة لميزانية الصمود الاقتصادي العائلي لذلك الزمن بوجه الحصار الامبريالي المقيت .
وكان البديل هو الصباط الصيني بنوعيه الابيض (الزحف) والاسود (ابو مسامير)
(الصباط الصيني) كان يعني انتعاله ان اليوم فيه حصة رياضة وهذا ترفيه ما بعده ترفيه في قواميسنا كطلاب مرحلة ابتدائية, واذا هطل المطر في هذا اليوم يعني ان المعنويات انهارت الى الحصة القادمة .
ويا صديقي : قصة عشقنا للصباط الصيني ذهبت بنا كاطفال مهووسون بكرة القدم الى ان ننسب له الاساطير والحكايات ,فمثلا عندما قفز مارادونا وهو القصير القامة وارتفع فوق بيتر شيلتون الطويل القامة وسجل الهدف الاسطورة بيده اجمعنا نحن المصابون (بلا شفاء) بعشق مارادونا انه بسبب انتعاله الصباط الصيني . ولما سئل مارادونا هل سجلت بيدك؟ اجاب : لم تكن يدي كانت يد الله .
اضفنا باجماع يفوق اجماع مجلس الامن بالرد على القاعدة (لم تكن يدي كانت يد الله والصباط الصيني)
وايضا عندما سجل فيليكس ماغات هدف الفوز الفولاذي في مرمى دينو زوف من على بعد 35 م ليهدي ناديه اول كاس ابطال الدوري قلنا ان ماغات ينتعل هذا الحذاء المعجزة باعتباره لم يسجل كثيرا قبل ولا بعد هذا الهدف .
وكذلك الامر بين رينات دساييف وفان باستن في نهائي كاس الامم الاوروبية.كان الصباط الصيني موجود.
– نظر الى حذائه وتساءل كل هذا هو الصباط الصيني ؟
اجبت باصرار وجدية (وأكثر من ذلك)
اقول لك حتى انه علمنا النظام والانضباط …..قال كيف؟
– كادت الدمعة نهزمني-
تابعت : كنا لكي نبدأ المباراة بحاجة لان ننقسم فريقين وعلى كابتن كل فريق انتقاء لاعبيه من ابناء الحارة ,وهنا ياتي دور صديقنا الصباط الصيني .
يتقدم لاعبان كلٌ بحذاء صيني ويبدآن السير باتجاه بعضهما بخطوات لا تزيد عن مقاس الحذاء ,واذا تلاحظ معي هناك هذا الخط الابيض (واشرت بيدي دالا عليه) من يتجاوزه اولا له حق بداية انتقاء اللاعبين .كل شيء كان يتم بطقوس عبادة كما الفروسية والمبارزة بالسيف .
اجابني بابتسامة اعجاب (هذا شيء مذهل) .
تابعت : كما اني اكتشفت ميولي اليسارية منذ الصغر بسببه ,فانا ابن العائلة الميسورة كنت استطيع ان انتعل اي حذاء اريد ولكني آثرت ان ابقى على مسافة واحدة من رفاق ذلك الدرب واظل مقاتل شرس بين صفوفهم بهويتي القاتلة (الصباط الصيني) .
زد على ذلك انه الى هذه اللحظة يشعرني بالفرح والابتسام لان من صممه اراده ان يبتسم ولاحظ معي الابتسامة وبامكانك ان ترى هنا (اشرت بيدي مجددا) .
انه باختصار يا عزيزي باسكال رفيق الايام الصعبة بدليل انه فور فك الحصار وبدات رياح التجديد والازدهار الاقتصادي تظهر مطلع التسعينات راح يختفي بالتدريج من حياتنا الى ان غادرها بسلام وكانه يقول (لم يبقى لي شيء اقدمه لكم يا اعزائي , عرفتكم اطفال وها انتم الان اطباء ومهندسين واصحاب خبرات …لقد نجوتم).
واخيرا سالني باسكال كمن يطلب شفاعة راهب :باعتبارك الان اصبحت الناطق الرسمي باسم هذا الحذاء هل لي ان اضيف اسطورة اخرى له كوني انتعله الان؟
اجبت: بالتاكيد , واذا اعجبتني سادعوك لكاس نبيذك المفضل مساءا .ابتسم واردف: من كسر احتكار امريكا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وقبل ذلك احتكار الاثنين لسيطرتهم على ذهب الاولمبياد هو الصباط الصيني .
22-8-2008 – برلين
هلوسات