أين تجدون الشعر
اسكندر حبش
في القصيدة ولكن أيضا في الخلوي والغرفة والسينما والانترنت والبصريات والأزياء.. وفي القلق
غالبا ما نعود إلى الشعر. قد لا يبدو الأمر مستغربا حين نعتقد أننا غرقنا في هذه »اللعبة الكتابية«، وجعلناها قبل أي شيء آخر. الشعر هو أيضا، جزء من هذه الثقافة التي تُسيّرنا والتي أفردنا لها مساحة كبرى في حياتنا، هذا إن لم نقل إننا أفردنا لها المساحة الأولى. في أي حال، يشكل الشعر عندنا، القول بامتياز. ربما هو حلم لم نعرف كنهه ولكننا نسير وراءه. من هنا غالبا ما نجده حاضرا في مروياتنا، في حياتنا اليومية وفي تفاصيلنا الصغيرة. نأتي إلى الكتابة مدفوعين بأشياء كثيرة، وربما كتبنا لأننا قرأنا الذين كتبوا من قبلنا. في أي حال، لم يتوقف الشعر يوما عن أن يولد نفسه، وأن يولد شعراء آخرين. من أين يأتي هذا »الهوس« إذا جاز التعبير؟ من أين تأتي الكتابة؟ أسئلة غالبا ما نفكر فيها، وغالبا ما نطرحها على أنفسنا، من هنا كان هذا السؤال، الذي توجهنا به إلى مجموعة من الشعراء الجدد، أقصد إلى بعض ممن أتوا في مرحلة متأخرة إلى الكتابة وبدأوا يشيدون مشهدهم الخاص. السؤال هو التالي: »من أين تأتي القصيدة عندك؟ هل لديها منابع أخرى غير الشعر الذي تقرأه؟«. بالتأكيد تنوعت الإجابات والمفاهيم، ولم تقف عند حدّ معين، فالشاعر السوري حازم العظمة يرى أنه عادة »تبتدئ القصيدة من كلمة واحدة أو عبارة واحدة، كأن تفتنني لسببٍ لا أعرفه تماماً، أو أعرفه في ما بعد، كلمةٌ ما أو عبارةٌ ما، أكون قد صادفتها، ومرات يحدث هذا في ما أقرأ مادةً قد لا تكون أدبية بالضرورة كمثل تقريرٍ صحافي إخباري أو حتى مقال في الجيولوجيا. مرة ابتدأت قصيدة طويلة من عبارة واحدة »اصطدتها« من تقرير صحفي عن سباق الزوارق السريعة، وأصدرت ديواناً بسبب فتنة كلمة واحدة: »أندروميدا«، فأصبح: »قصائد أندروميدا«، وأنا أعني بالفتنة التي للكلمات الصوت، أي الأحرف وتجاورها إضافة إلى فتنة الدلالة أو الدلالات، فمرة ابتدأت قصيدة بسبب الفتنة التي وجدتها في عبارة »حوش بلاس« وهو مكان تجتمع فيه حوانيت تصليح السيارات والميكانيك، فأصبح عنوان القصيدة هكذا: »نحاةٌ وعسالونَ وبرتقالٌ في حوش بلاس«. لكن الأمر لا يتوقف عند العظمة هنا، إذ يجد أنه »بطبيعة الحال بعد أن تبتدئ القصيدة تسلك حياتها الخاصة فتبتعد أو تقترب أو تعيد العبارة التي ابتدأت منها ولكن ليس بالضرورة، فالكلمة أو العبارة الأولى تلعب دور »الزناد« فحسب وأحياناً لا أكثر«. لكن الشاعر طبعا »من الصعب أن أصدق، قبل أي أحد آخر، أن مصدر القصيدة كلمة واحدة، المسألة تشبه »الحاصل« الذي اعتاد أسلافنا أن يخزنوا فيه الحبوب وهو صندوق كبير من الخشب اتجاهه عمودي وبأسفله عند القعر مزلاج خشبي حين ترفعه »تسيل« الحبوب بسرعة وطلاقة من الفوهة التي كان يسدها المزلاج، تلك »الكلمة ـ البداية« هي هذا المزلاج، والذي ينسكب بعد ذلك إن هو إلا حبوب »الحاصل« أعني الخزين الثقافي واللغوي، في تلك اللحظة، الذي لكائن ما… نسيت أن أضيف إلى الخزين الثقافي واللغوي عبارة العاطفي… إذ ما من شعر بدون ما هو عاطفي، حتى وإن خِفيةً، حتى وإن خِلسة«.
تسلق الكلمات
هذا »الخزين« الذي تحدث عنه حازم العظمة، نجده بطريقة أخرى عند الشاعرة الليبية خلود الفلاح التي تبدأ إجابتها بالقول: »الحياة، الشعر، الموت، الشوارع، المقاهي والجلوس عند نوافذها لمراقبة المارة، أصدقائي القريبون والبعيدون جغرافيا، جهازي المحمول الذي اعتبره كابني وأخاف عليه، ايميلي، السفر، غرفتي التي يحلو لي أن تكون بكامل فوضتها. عملي الصحفي الذي أحبه بقوة وأكرهه في الوقت نفسه لالتزامي بمواعيد محددة لتجهيز حوار أو استطلاع أو عرض كتاب ترك شيء في نفسي، قراءاتي في الشعر والرواية، حبي بل جنوني القديم والدائم بألعاب الأطفال كل هذه الأشياء منابعي للكتابة. وأنا صغيرة كنت أتسلق الكلمات أحلم بهدوء أرحل من شعور إلى آخر. هذه كانت الحياة. أما الشعر فلم يكن هناك، الشعر لا مكان له مع الطفولة، الشعر كلمة مرادفة للطفولة، للعب، لم يكن الشعر هناك، كان هناك مفهوم صغير الحجم للاستمتاع، الاستمتاع بماذا؟ الاستمتاع بأن أيام قليلة مرت وهناك كثيرة قادمة«. وإزاء ذلك كله تجد الشاعرة الليبية أن »الشعر كان هناك طيلة الوقت مبعثراً في أيام العمر القصير للكلمات عندما تقال في العمر الطويل، للكلمات عندما تكتب على الصحيفة أن تسمع وعلى الشاعرة أن تكتب«. وتضيف: »هناك أنا بين صخب الصحافة الخارجي وصخب الشاعرة الداخلي أصبحت أحلم بشكل أفضل. أعتقد أن »ايفون فيردييه« حين قال »يجب أن تفهم النساء من خلال كلماتهن« لم يكن يقصد الشعر بمعناه الحرفي بل كان يقصد تصرفاتهن القريبة من الشعر، لا أفهم الحياة إلا في الشعر ولا أفهم الشعر إلا في الحياة«. إذ »في دفتري البني الخشبي المربوطة أوراقه بخيط رفيع المحتوي نصوصي في كتابتها الأولى إلى أن تصل المرحلة النهائية »الصالحة للنشر« أتعلم نسج الشعر«.
وتختم خلود الفلاح بالقول: »لا أفكر في الحياة إلا في اتساعها في غرفتي المكتظة بصوري. في غرفتي أقصد في عزلتي أكتب أشياء كي تكون »بهجات مارقة« ديواني الأول و»ينتظرونك« ديواني الثاني و»طاولة عند النافذة ـ مجموعة حوارات«، كي تخرج إلى العلن، كي تعلق عني بكل هدوء، أحب صوت فيروز أشعر انه صديقي وأفهم لماذا تردد جدران الغرفة أغنياتها الصغيرة كنصوصي«.
فراغ الروح
الشاعر السعودي عبد الله ثابت يرى أن القصيدة عنده تأتي: »من الغضب والنقمة والقلق، وحين أطمئن وأرضى أصبح فارغاً من روحي.. ومن حياتي«! ويعود ليطرح السؤال على نفسه: »من أين يأتي القصيدة«؟ ليجيب: »قرأت مرةً عن قريةٍ في أفريقيا، في زمنٍ مضى كانت إذا انقطع عنها المطر، وجفت أرضها، وحلت عليها المصائب، والفقد والأحزان، واختنق بها الكون كل الكون.. اجتمع أهل تلك القرية كلها، لا يغيب منهم أحد، بمرضاهم، وكبارهم وصغارهم، وحتى ما تركه موتاهم من اثر، ويجيئون حتى بماشيتهم، وكل كائن حيّ فيهم، ثم يبدأون معاً في الغناء والرقص، ليطردوا الشر الذي حاق بهم إلى الأبد، ولتعود لهم الغيمة ويسيل الوادي، وينبت الحب والعشب من جديد.. ومن تلك الصلاة وذلك الابتهال تأتيني الكلمات، وأحسبني حتماً من سلالة أهل تلك القرية، أو على الأقل لا بدّ أن روحاً من هناك عادت لهذا الوجود.. وتلبستني«!
أما عن منابع الكلمات، فيجد ثابت أنها »بئرٌ موحشةٌ واحدةٌ فقط.. هي هذه النفس التي لا تهدأ، النفس التي لا تحمل هوية.. وطالما كان مشيها انفلاتاً على الزحام لتعود إلى تلك القرية برقصاتها وغنائها وحبها وواديها وصفائها، نفسٌ تحمل تجليات ما يحيط بها من الشتات«! ووسط هذا الشتات يرى ثابت خاتما إجابته: »إنني روح لا ترغب في أن تصل لشيء، لأنها لا تثق بشيء، وما عادت تلوذ بغير ريبتها.. روحٌ تريد أن ترجع إلى عنصرها وتتلاشى فيه، ولأجل هذا أصيح بهذه الأصوات التي يسمونها شعراً«!
بدورها لا تحصر الشاعرة السورية ندى منزلجي الشعر بالشعر، تقول: »حصر منبع الشعر بالشعر وحده، يشبه حصر بهجة الإحساس كلّها باللمس مثلا، رغم ثروة من لواقط ومجسات تشمل بدائية الحواس الخمس، لكنها تتعداها، كما تتعدى أيضا أختهن السادسة الأكثر اكتمالا وغموضا«. وتجد منزلجي أن: »القصيدة التي تعجبني تحملني إلى حالة انتشاء، وقد تثير بي شهوة إلى الكتابة، ولكن الحالة هنا تشبه إلى حد ما غيرتي أمام امرأة جميلة، غيرة آنية وأمنية بان أكون مثلها أو أجمل، سرعان ما تختفي مع يقيني أن هذا لا يمكن أن يحصل. سعادة اكتشاف قصيدة رغم سعتها وشفافيتها، والضوء الذي تسكبه في روحي، يكون لها أحيانا تأثير سلبي علي كشاعرة. أتلعثم أمام قصيدة جميلة، اشعر بفقري وغناها، سذاجتي وعمقها، عاديتي وابتكارها. ولكن منبع القصيدة الحقيقي عندي أكثر استعصاء، أكثر توغلا في لحم الإحساس، هناك حيث موطن الحلم وموطن الألم المبهم والفرح اللامفهوم، والنزق الذي يحفر في الروح ليصبح اشد وطأة من الحزن. إنها بلورة كريستالية تدور حول محورها وحين يسقط عليها شعاع ضوء تنير قلبي بقصيدة، لا اعرف متى سيمسها الضوء، وليس لدورانها مسار محدد كي أتكهن بلحظة التقائهما فأعاجلها بشمعة على شكل ديوان شعر لتكون النتيجة كتابة قصيدة«!
لكنها أمام ذلك تشعر بأن ثمة غرابة في الأمر، تضيف الشاعرة السورية بالقول: »والغريب أن كائني الشعري الذي يخرس أمام قصيدة، يصبح ثرثارا منطلقا على سجيته خارج القمقم في كل مرة احضر فيها عرضا سمعيا أو بصريا حيا. أنا لا اذكر مرة إني حضرت مسرحية أو أوبرا أو أوبريت أو حفلة موسيقية إلا وكان نصفي فقط مع العرض، والنصف الآخر يهذي بمقاطع شعرية. تمتعني هذه العروض المزدوجة التي احضرها دائما بسعر بطاقة واحدة، لكن الشعر المستبد بطبعه يحصل أحيانا كثيرة أن يطغى فيضيع مني العرض، وأظل جالسة، وعلى وجهي شبح ابتسامة هائمة لا تتناسب ربما أبدا مع ما يجري على المسرح، في حالات كتلك يصبح تقييمي للعمل المسرحي أو الموسيقي متوقفا على جمال التهويمات الشعرية التي لاعبت خيالي خلال العرض. والغريب أن محفزي الشعري البصري السمعي هذا، يستثني السينما حيث استطيع القول إني أشاهد الأفلام بكلي«.
لكن ثمة احتمالات متعددة في هذا، إذ أن القصيدة ـ عند منزلجي ـ »قد تأتي من منابع بسيطة لا انتظرها: مشهد عابر، لوحة في سماء رمادية، وجه يجلس أمامي ولا يراني في مقهى أو أي مكان عام، وقد تأتي من مصادري الصافية تماما، من جذور نجواي الداخلية، وتساؤلاتي التي لا بد من تقطيرها في كلمات، أما القراءة بكل أنواعها فهي ليست أبدا مصدرا مباشرا للكتابة، فكل ما اقرأه عليه أن يتخمر ويتحول ويحايلني كثيرا قبل أن يعبر عن نفسه بطريقة ملتوية أنا نفسي ـ معظم الأحيان ـ أتوه عن أصلها«.
الشعر السعودي عيد الخميسي يرى أن السؤال »يذهب مباشرة إلى مصادر الفن ـ الشعر متخطياً مفاهيم كثيرة أقلها أو أعلاها (العبقرية الشعرية) مثلاً. لكن ما يقوله الفنان عن مصادر فنه قد يكون غير دقيق تماماً. فهو قد يضلل قارئه حين يقدم له قائمة بمصادر قليلة الأهمية مثلاً فيما يغيب المصادر الأهم، قد لا توجد في الواقع مثل هذه القائمة، غير أنها ترتبط بالحياة التي يعيشها منتج النص، قد لا يكون الفنان ذاته هو الأكثر قدرة على تحديد مصادره، فهو لا يتتبعها بل يعيشها. إنها التجارب والحياة بإيجاز، وهي في ذات الوقت ترتبط برؤية الفنان (أي فنانٍ لفنه، للفن بوجه العموم)«.
من هنا ينظر الخميسي »بشكل ما.. للفن ـ الشعر على أنه عملية بحث، قد تكون قراءة الشعر أبرز باعثيها الأوائل، وفي مرحلة الانبعاث تلك يتحول الباعث إلى مصدر هام، يستحوذ على مساحة كبيرة من الوعي بالحياة والفن والأدوات الفنية. لكنما ليس بالضرورة أن تظل قيمته النسبية كمصدر على حالها. ربما ستتضاءل القيمة النسبية للشعر كمصدر متيحة المجال للحياة بأسرها وهذا ما أشعر به شخصياً«.
أما عن مصادره، فيرى أن: »الفنون البصرية مصدر مهم للمتعة بالدرجة الأولى ثم للحوار حول الفن وعنه. أعمق صداقاتي هي مع فنانين تشكيليين وهم من أحاور وأتشارك وأقرأ. المسرح أيضاً، فالحوارات التي يصنعها المسرح غنية وتجعلك تلملم الكون في علبة كبريت، لي العديد من الأصدقاء المسرحيين واشتركت العام الفائت في دورة تمثيل«. وبالتأكيد يضيف السينما إذ أنها: »مصدر مهم للمتعة، الموسيقى، الفرجة في فاترينات الأزياء الحديثة وملاحظة الخطوط الفنية التي تشتغل عليها دار أزياء ما (يمكنني قضاء ساعات طويلة مع قارئ جيد أتجول معه في ممرات سوق يحوي دور أزياء من تلك التي لن نشتريها يوماً)« ولا ينسى »القراءة بالطبع« إذ هي »مصدر مهم، أقرأ في العلوم (كونني معلم علوم ـ كيمياء)، في التصوف، الرواية«. وأخيرا: »أتابع الانترنت وهو حقل خصب للكتابة، يدهشني الانترنت باستمرار، ويمنح فرصة كبيرة للتأمل والقراءة (مذهل أن يتحول الأصدقاء، صور الأصدقاء إلى أرقام مالية وسلع وهدايا بشرية في الـfacebook على سبيل المثال)«.
السفير