المـلـل
باولو كويلو
في احدى مراحل حياتي، وتحديداً بين عامي 1982 و1990، كنت أحتفظ بدفتر صغير أدوّن عليه أحاديثي مع ج.، أفضل أصدقائي الذي علّمني الكثير عن لغة العالم الرمزية. ومن فترة قصيرة قرأت سيرتي التي كتبها فرناندو موريس، فقررت أن أعيد كتابة النص الآتي:
– يتذمر الناس من واقعهم لكنهم في دواخلهم يعشقون الروتين.
– هذا واضح، والسبب في غاية البساطة: فالروتين يمنحهم شعوراً زائفاً بالأمان. وهكذا يمر كل يوم مشابهاً تماماً لليوم الذي سبقه، والغد لن يأتي بالمفاجآت.
وحين يحل الظلام، يشتكي بعض الروح من أنه لم يختبر أي جديد، فيما يكون البعض الآخر راضياً عن ذلك، والمفارقة أن المسبّب واحد.
“من المؤكد أن هذا الشعور بالأمان زائف كلياً. فلا يمكن احداً أن يتحكّم في أي شيء. والتغيير يحصل تحديداً في اللحظة التي يكون توقّعه فيها معدوماً. فيحل التغيير عندما لا نكون قادرين على الرد أو المواجهة.
ممَّ نحن متحررون حتى نقرر أننا نريد حياة رتيبة؟ هل لأن الله يجبرنا على التغيير؟
– ما هي الحقيقة؟ هي الطريقة التي نتصوّرها بها. واذا كان العديد من الناس “يعتقدون” أن العالم على هذه الشاكلة أو تلك، تجمد الأمور من حولنا ولا يحصل أي تغيير لفترة طويلة من الزمن. لكن الحياة تطوّر مستمر، اجتماعياً وسياسياً وروحانياً، بغض النظر عن المستوى الذي انطلقت منه. وتطوّر الأشياء يستوجب تطور الانسان. ولما كنا جميعاً مترابطين، فإن القدر يطيح أولئك الذين يقفون في وجه التطوّر.
– يحصل ذلك عادة بصورة مأسوية…
– تتباين مأسوية ذلك بحسب منظارك اليها. فاذا اخترت أن تكون ضحية لهذا العالم، فعندها تغدو كل مجريات حياتك قوتاً لبعض روحك المظلم، حيث تعتبر نفسك مخطئاً، فريسة للمعاناة، مذنباً وتستحق العقاب. أما اذا اخترت أن تكون مغامراً، فربما آلمك التغيير، وحتى الخسارة التي لا يمكن تجنّبها، فكل شيء في هذا العالم متغيّر.
في العديد من التعاليم المنقولة، يعتمد المعبد الذي يتقدم بابه عمودان، رمزاً للحكمة. فالعمودان يحملان على الدوام اسمين متناقضين. لتوضيح ما أقصده، لنقل إن العمود الأول اسمه الخوف، والثاني الرغبة. حين يقف أحدنا في مواجهة باب المعبد، ينظر الى عمود الخوف ويفكّر: يا الهي، ما الذي ينتظرني؟ ثم يلتفت الى عمود الرغبة ويقول: يا الهي كم ألفت حياتي، أريد ان أمضي ما تبقّى لي منها على المنوال نفسه. فيتسمّر هناك جامداً، وهذا ما يسمّى بالملل.
– والملل هو…
– الحركة التي تنقطع. ونحن نعرف بغريزتنا أن ذلك خاطئ فنثور ضده. نشتكي الى أزواجنا وزوجاتنا وأبنائنا وجيراننا، لكننا في المقابل نعلم أن الملل والروتين يشكّلان برّ أمانٍ لنا.
– هل يمكن أن يمضي المرء حياته في وضع مشابه؟
– يمكنه أن يتّخذ أكبر خطوة في حياته ثم يحاربها ويبقى حيث التذمّر والشكوى – تكون معاناته بلا طائل ولا يستفيد منها شيئاً.
محارب الضوء ومهاراته
الإلهام والخبرة
لا يعتمد محارب الضوء على قوته فحسب، بل يستغلّ طاقة خصمه أيضاً.
عند خوضه المعركة، تكون الحماسة والحركات التي اكتسبها خلال تدرّبه رصيده الأوحد؛ ومع احتدام المعركة، يكتشف أن حماسته وتدريبه لا يكفيان لضمان انتصاره: فالخبرة ضرورية.
يفتح قلبه للكون ويطلب إلى ربه أن يلهمه أن تكون كل ضربة يسدّدها الخصم درساً مفيداً في الدفاع.
يعلّق رفاقه: “انظروا كم يؤمن بالتعاليم. ذلك أنه قطع المعركة بغية الصلاة، وهو يحترم أساليب عدوه”.
لا يبدي محارب الضوء أدنى اهتمام بمثل تلك الاستفزازات. فهو يعلم أنه لن يحصد ثمار تدرّبه من دون الإلهام والخبرة.
الفعل والتكرار
يلاحظ محارب الضوء أن بعض اللحظات تتكرر. يجد نفسه مراراً في مواجهة صعوبات الماضي وأوضاعها نفسها.
يصيبه الإحباط. وتراوده فكرة أنه غير قادر على التطور في حياته، مع معاودة تلك اللحظات العصيبة. يلوذ إلى قلبه بشكواه مؤكداً أنه مرّ بمثل ذلك من قبل.
يجيبه القلب: لا شك في أنك مررت بذلك؛ لكنك لم تجاوزه. يدرك المحارب آنذاك أن تكرار التجارب له هدفٌ أوحد: أن يعلّمه أنه لم يتعلم بعد. يبادر إلى التفتيش عن حل جديد لكل صعوبة تتكرّر حتى يعثر على طريقة تحقّق له النجاح.
محاربة من يستحق
قال الشاعر: إن محارب الضوء يختار أعداءه.
يدرك المحارب قدراته. فهو ليس في حاجة إلى مواجهة العالم، وهو يتباهى بميزاته ومحاسنه. لكن كما هي الحال في الغرب القديم، سوف يظهر من يحاول إثبات تفوّقه عليه، والمحارب يدرك عدم وجود أفضل أو أسوأ في الصفات:
فكل فرد يتحلى بالإمكانات الضرورية لاستكمال مسيرته الشخصية.
لكن بعض الأشخاص يصرّون، يحرّضون، يهاجمون، ويفعلون كل ما في وسعهم لمضايقته. ينتقدون كل أفعاله ويحاولون دوماً إثبات خطأ خياراته.
في تلك اللحظة يقول قلب المحارب: “لا تقبل الإهانات فهي لن تغني مهاراتك. سوف تتعب من أجل اللاشيء”.
إن محارب الضوء لا يهدر الوقت في الإصغاء إلى الاستفزازات؛ فأمامه مصير ينبغي تحقيقه.
(•)
تحدي المعلّم
هل هذا الطائر حي؟
بلغ الشاب المرحلة النهائية من التدريب، وقريباً يغدو معلّماً. وككل التلاميذ المجتهدين كان لا بد من أن يتحدى معلّمه وأن يبتكر طريقة تفكير خاصة به. التقط طائراً ووضعه على احدى كفّيه وتوجّه نحو معلّمه:
– يا معلّمي هل هذا الطائر حيّ أم ميت؟
كان مخطّطه هو الآتي: اذا أجاب المعلّم بأن الطائر ميت، يفتح راحة يده ويفلت الطائر. واذا أجاب بأنه حي، يسحقه بأصابعه، وهكذا يكون المعلم مخطئاً في الحالتين.
أعاد طرح السؤال: يا معلّمي هل هذا الطائر حيّ أم ميت؟
– تلميذي العزيز، ان ذلك يعتمد عليك.
التلميذ غير المرغوب
قال شانتي للزائر القادم بحثاً عن المعرفة: ليس لدينا أماكن شاغرة
– لكن ماذا عن الأشخاص الذين يثيرون متاعبك ويعكّرون صفوك؟
– أتجاهلهم فيضطرون الى المغادرة.
أصر الزائر قائلاً: أنا شخص مطّلع أتيت بحثاً عن المعرفة. فماذا تعرف عن الأغبياء؟ هل تكتفي بتجاهلهم حتى يرحلوا؟ هل يجدي ذلك نفعاً؟
لاذ شانتي بالصمت. كرر الزائر سؤاله مرات عدة، وعندما يئس من الاجابة قرر أن يذهب بحثاً عن معلّم آخر أكثر تركيزاً على ما كان يبتغيه.
قال شانتي في سرّه مبتسماً: هل رأيت كم يجدي ذلك نفعاً؟
المعلّم والحكيم الغبي
نصر الدين الحكيم الغبي عند الصوفيين مر يوماً بمغارة فرأى معلّم يوغا في حالة تأمل عميق، فسأله عمّا يبحث.
– أتأمل الحيوانات وأتعلّم منها دروساً في إمكانها أن تغيّر حياة انسان.
– علّمني ما تعرفه، وسوف أعلّمك ما أعرف، ذلك أن سمكة أنقذت حياتي.
يفاجأ المعلّم بما سمع: وحده القديس يمكن أن تنقذه سمكة.
يقرر أن ينقل اليه كل ما يعرف.
في النهاية يسأل: الآن وقد علّمتك كل شيء يسعدني أن أعرف كيف أنقذت حياتك تلك السمكة.
– الأمر بسيط، كنت أتضوّر جوعاً، اصطدت سمكة وبفضلها بقيت ثلاثة أيام على قيد الحياة.
التنوّر في سبعة أيام
قال بوذا لتلامذته: ان في مقدور كل من يجدّ أن يبلغ التنوّر في سبعة أيام، وان أخفق فلا بد أن يبلغه في سبعة أشهر أو سبع سنوات. أراد شاب أن يصل الى ذلك في أسبوع، فسأل عن الطريقة: “بالتركيز”، جاءه الرد.
راح الشاب يتمرّن، لكنه فقد تركيزه بعد عشر دقائق. شيئاً فشيئاً، أصبح ينتبه الى كل ما يلهيه. وفكّر في أنه لا يضيّع وقتاً، بل يتآلف مع نفسه.
ذات يوم رأى أن من غير الضروري بلوغ الهدف المنشود بتلك السرعة، لأنه تعلّم الكثير في طريقه الى التنوّر.
آنذاك غدا متنوّراً.
(•) يخص الكاتب جريدة “النهار”، قبل سواها، بحق نشر مقالاته الأسبوعية مباشرة بعد صدورها بالبرتغالية، بالاتفاق مع ناشره بالعربية، “شركة المطبوعات للتوزيع وللنشر”.
ترجمة عزة طويل