دوريس ليسينغ تسرد حكاية «ألفريد وأميلي»
سليمان بختي
يظهر من عنوان الكتاب أنه رواية أو مذكرات شخصية ولكن دوريس ليسينع – حائزة نوبل للآداب – تسم كتابها «الفريد واميلي» الصادر عن فورت ايستات، في 274 صفحة، 2008 بميزتين: الأولى، انه يتمتع ببنية سردية متخيلة، وأيضاً بـــسرد مــذكرات، والــقصة عــينها تُروى بطريقتين. والثانية: انه يتصل بسلسلة الكتب التي تحمل الأسماء الثنائية الناجحة في تاريخ الأدب مثل «آرثر وجونز» لجوليان بارنز، وغيره.
وهنا، الروائية البريطانية القديرة دوريس ليسينغ، والتي تبــلغ التسعين من العمر في السنة المقبلة ما زالت تكافح وتُصارع لأجل أن تفهم والديها وماذا يريدون منها، ومن أنفسهم، ومن الحياة. وما الذي فشلوا في تحقيقه، وحصدوا الخيبات والندم. ومتى وأين بلغوا ذروة سعادتهم. تتخيل ليسينغ الحياة التي كانت ستحظى بها لو لم تشتعل الحرب. وفي القسم الثاني من الكتاب تعمد الى وصف حياتها بحسب الوقائع. تخوض ليسينغ في تجربة جريئة ليس بسردها للحياة وتفاصيلها الحميمة بل وأيضاً بنوع من التصحيح للأخطاء التي حصلت فيها. كأنها تحاول أن تسلك في حياة قادرة على تصحيح عثراتها.
نشأت اميلي (والدة ليسينغ) في عائلة عاملة في الشرق. فقدت والدتها في سن مبكرة. تفوقت في دراستها. ذهبت الى الجامعة ولكنها خالفت رغبة والدها في وجهة الاختصاص وأصبحت ممرضة. نشأ الفريد (والد ليسينغ) في اسكس، قرية ريفية، واشتغل في مصرف ليستقل بنفسه بعيداً من أهله. أُصيب بشظية في رجله أثناء الحرب.
التقى بإميلي في مستشفى رويال فري وكانت تعمل ممرضة في الجناح الذي يعالج فيه. مكسورة وخارجة من قصة حب مأسوية بعدما غرق حبيبها الطبيب الشاب في البحر. ساعدته ووقفت الى جانبه لدى استئصال رجله، والصدمة التي تلت قربتهما فتزوجا على الأثر. ولم يكن لديهما ما يبقيهما في انكلترا فسافرا أولاً الى ايران ثم الى جنوب روديسيا.
وتتوالى الأحداث، في عام 1919 ولدت لهما طفلة وهي دوريس. وهذه الوقائع معروفة وكتبتها ليسينغ في كتابها – السيرة الذاتية «تحت جلدي» (1994). ولكن، تعيدنا ليسينغ الى عام 1902، الى يوم مشمس في ريف اسكس حيث تجرى مباراة كريكيت والمراهقة اميلي تبكي في الملعب لمشكلتها مع والدها الذي لا يريدها أن تصبح ممرضة. وفي الملعب أيضاً الفريد الرياضي الوسيم والموهوب.
تبدو القصة هنا وكأن الكاتبة تدعو الفريد واميلي للوقوع في الحب. ولكن هذا لا يحصل في خيال ليسينغ، ولا يُصبحان أهلها بل يتفرقان. وتمر السنون بسرعة. في عام 1905 في مباراة الكريكيت السنوية – تنقلب الأدوار – الفريد هو الذي يُخيب آمال أهله. وبدلاً من أن يعمل في المصرف يقرر أن يكون فلاحاً ومزارعاً. قصة كل الأولاد الذي يحبطون آمال أهاليهم. وهذه القضية تُعالجها ليسينغ بعمق ومن زوايا وأبعاد مختلفة. وفي عام 1916 يعاني الفريد من التهاب الزائدة الدودية، وهذا ما حصل بالفعل لألفريد الحقيقي في فرنسا قبل معركة سوم، وكانت سبباً في إنقاذ حياته.
هذه المواجهة القريبة مع الوقت جعلته يدرك انه حان الوقت للزواج. وبدلاً من أن يتزوج من اميلي يتزوج من صديقتها الممرضة وتدعى بتسي. زواجهما سعيد ولديهما ولدان. والفريد يبرهن انه أب حنون وفلاح ماهر. واذا كانت ليسينغ قد حققت رغبة والدها، وردَّت له رجله، ومحت الأحداث التي سببت له الصدمة التي غيَّرت مجرى حياته، وتركته يموت عجوزاً هانئاً. فإنها لم تكن متساهلة مع أمها أبداً. إذ تتزوج من حبيبها، طبيب القلب، الذي توقع منها التخلي عن عملها والبقاء في البيت وسط الخدم. مما لا يُلائم اميلي وطبعها. ولكنها تخلص من كل ذلك بموت زوجها الفجائي المبكر. تكتشف في نفسها موهبة سرد القصص وتؤسس جمعية خيرية وتفتتح مدارس في اسكس. ومع ان اميلي الخيالية التي تعيش في لندن كانت غير راضية، ولم تتزوج مجدداً إلا أنها حققت طموحاتها بعكس اميلي الحقيقية.
وفي القسم الثاني من الكتاب تظهر الحقيقة. الفريد يعاني من رجله الخشبية ولاحقاً مع السكري. واميلي مُقعدة في سريرها في روديسيا بين (1914 – 1918) إلا أن هذه الحقائق لا تُكذب الخيال في القصة. الفريد واميلي يُقتلان في الحرب. وما فعلته ليسينغ في قصتها انها اخترعت لهما حياة جديدة ومختلفة. وسمحت لهما أن يكونا أصدق مع نفــسيهما. لــعبة الخيال والحقيقة. الأصل والمرايا. الضرورة والحرية. ولمن الغلبة تكون في النهاية. ولمن السلطة أكثر في الواقع. والــفارق بين الاختيار والقدر. انها مجادلة تقودها ليسينغ مع نفســها والأجوبة لا تأتي بسهولة. وتعتمد ليسينغ بقوة على خيالها السلس الفوار. وتبدو الوقائع التي ترويها غريــبة ولكن واضحة. ملتبــسة ولــكن هــادفة.
وبعد، يمتلئ الكتاب بالوصف الدقيق المختلف الذي وحدها ليسينغ تستطيع أن تغالبه حول المزرعة الروديسية التي انطبعت في ذهنها، وهي طفلة. الماشية والجدب، والبيت الجدرانه من وحل وطين والمليء بالقش، فساتين والدتها الجميلة والمعلقة في الخزانة، الطعام، الحشرات. وكل هذه الأشياء مُصنفة في سياق مُفصل وجميل. هذه اللقطات قد تكون خيالية أو من ذاكرة مشككة ولكن ليسينغ تدعمها بتحاليل وتأويلات ذكية وأخبار الحكايات. وتترك المجال للتفكير في قضايا ومسائل مثل مرض الإيدز والمجاعة والفلاحة. وتمضي ليسينغ أحياناً في طريق متعرجة ولكنها عندما تبتعد عن الموضوع كثيراً ترجع الى قضيتين أساسيتين تؤثرهما: الحرب الأبدية بين الأمهات وبناتهن، وأهمية خروج النساء الى ميادين العمل بدلاً من اختناقهن في المنازل.
وأخيراً، كتاب «الفريد واميلي» كتاب مُميز في مسيرة دوريس ليسينغ لأنه، على مألوفها، مُنعم بالحيوية، وأيضاً باللعب على الشكل والاختبار والتجريب، ومُستمد من ســيرة حياة معجونة بالخيال والحقيقة والقدر الصعب في آن.
دوريس ليسينغ تطرق باب عقدها التسعيني ولم تزل تُراهن بقوة على المستحيل والإبداع وفض الأسرار واللعب بالزمن والأقدار والمسالك والكلمات.
الحياة – 13/09/08