أورهان باموك.. روايته الجديدة «للعشاق فقط» ومتحف لتخليد حبيبته
صاحب نوبل لا ينفي أنها سيرته الذاتية
اسطنبول: سمير صالحة
ليست الرواية الجديدة لأورهان باموك كما سابقاتها، فهي رومانسية حد الخلط بين الحقيقة والخيال، وجريئة إلى درجة المغامرة، ويشك كثيرون أن تكون جزءاً من سيرته الذاتية وهو ما لم يؤكده باموك ولم ينكره أيضاً. قصة حب من نوع خاص، يريد باموك ان يقرنها بمتحف يضم أشياء الحبيبة، وزع بطاقات الدخول إليه مع كل نسخة من الكتاب، وهو يريده للعشاق فقط. رواية تتنافس دور النشر على إصدارها بما لا يقل عن ثلاثين لغة بعد ان أبصرت النور بالتركية. ما الذي يريده أورهان باموك هذه المرة بعد أن صار ممنوعاً من التجوال في مدينته المفضلة اسطنبول واقرب إلى حراسه الشخصيين من أي أحد آخر؟
الروائي التركي وحامل جائزة نوبل للآداب أورهان باموك، أفرج أخيراً عن قصته الجديدة وأطلق سراحها بعد 6 سنوات كاملة من الإخفاء والتعتيم والمماطلة والاطالة. فهو يعرف جيداً انه لا خيار أمامنا سوى الصبر والانتظار. باموك كان مختلفاً هذه المرة في الاصرار على عدم البوح أو حتى إعطاء أبسط المؤشرات حول اسم ومضمون لعبته الجديدة التي أمسك بها بشدة، وأخذ ينزهها في أكبر وأهم متاحف العالم، واعداً بالمفاجأة على عكس ما فعل في معظم رواياته، حيث كانت اسطنبول كل شيء في رواياته، ينزوي في غرفة البيت العلوية، محاطاً بأقلام الرصاص والورق وفناجين القهوة، ويكتب…
صعود الدخان الأبيض، وقرار الإفراج عن الرواية، يعني الكثير بالنسبة لباموك، فهي قصة حب متشابكة، متداخلة بين الحقيقة والخيال، يرفض الافصاح حتى الساعة عما اذا ما كان قد عاش هو وقائعها أم لا. لا يرد بالإيجاب لكنه وهذا المحير لا ينكر أيضاً.
باموك في روايته الأخيرة حبس الحبيبة سنوات طويلة، أجلسها أمامه، وأخذ يستذكر معها أيام الماضي، في أواسط السبعينات. محطات كثيرة في أحياء اسطنبول بكل مواصفاتها في مطاعمها ومقاهيها ودور السينما والفنادق. هو يسرد والحبيبة جالسة أمامه، تصغي مبتسمة تتفرج على هذا المشاغب الذي لا يخجل من قول كل شيء.
باموك كان سخياً في كتابه هذا، على غير عادته، كتب عن العشق والغرام بلغة فوق – معولمة، لم يتردد للحظة واحدة وهو يشهر بكل مغامراته، يسرد ويطيل دون أن يمل أو يضجرنا. الكتاب في 600 صفحة ومن المستحيل قراءته على عجل ومرة واحدة، وإلا فإننا نظلم كاتباً تترجم مؤلفاته الى 60 لغة في العالم، وحصد عشرات الجوائز العالمية، والدكتوراه الفخرية من أكبر جامعات العالم بينها الجامعة الاميركية في بيروت، ونقطع عليه الطريق نحو جوائز جديدة، وطبعات أخرى بدأت عقودها تنهال عليه منذ صدور الطبعة الاولى للكتاب.
أورهان باموك قرر في روايته هذه جمع الأغراض والأشخاص والأماكن جنباً إلى جنب، في حكاية حب قديمة وطويلة، طالبه كمال بأن يكتبها فقبل بعد الاستماع إلى تفاصيلها، وكان لبطلنا كمال ما أراد، رغم أن وصيته الاخيرة محيرة ومربكة فعلاً. فهو دعا باموك أن يجمع أشياء الحبيبة «فسون» كلها في مكان واحد، يحوله الى متحف خاص يطلق عليه اسم «متحف البراءة».
باموك الذي وصف الرواية بأنها أجمل لحظات حياته لأنها تروي حكاية إعجاب وصداقة وحب بين كمال الذي تلقى تعليمه في أكبر وأهم مدارس وجامعات المدينة- فهو وحيد الأسرة الغنية التي تعيش في أرقى أحياء اسطنبول- وبين فوسون ابنة أحد الأقارب الفقراء التي عاشت وتربت وسط بيئة متواضعة تمنحها الدفء والسعادة والطموح لتكون ممثلة محترفة.
رواية فكرتها قديمة، بدأ باموك العمل عليها منذ سنوات، لكنه وضعها جانباً ليعود إليها مجدداً وينهيها في بداية الصيف المنصرم، بعدما تركها حتى تختمر وتنضج لينجزها ويضعها أمام القارئ، مشترطاً أن يكون من فئة العشاق أو الراغبين في قرع أبوابه.
كتاب زار من أجله باموك عشرات المتاحف العالمية، ليقرر بعدها تفجير خطته. ربط الحبكة الخيالية بالأشياء المجسدة تحت سقف واحد، متحف خاص يجمع فيه كل ما «سرقه» أو حصل عليه بالمجان ولامسته يد الحبيبة، يخلد حكاية هذا العشق ويكون شاهداً عليه. أورهان باموك يقول ان همه الآن هو بناء هذا المتحف، ويعرض فيه الأشياء التي جمعها من أكثر من مكان، وكانت محور روايته، كتب عنها مطولا وأرفقها ببطاقة دخول مجانية الى قرائه لزيارة هذا المتحف والتعرف عن قرب الى كل قطعة وتحفة ورسم كتب عنها. وهو يقول أيضا انه اشترى قبل سنوات قطعة الأرض المجاورة لمكان سكنه من أجل تحقيق حلمه هذا بعدما تسلم أخيراً الخرائط والتصاميم النهائية للبناء متمنيا أن ينجز كل ذلك خلال سنتين أو ثلاث.
رواية مركز الثقل فيها هو متحف البراءة الذي شيده باموك في مخيلته ووضع تصاميمه وأحصى محتوياته، واختار حراسه وموظفيه بدقة وعناية، فتحول الكتاب إلى أبعد من رواية، إلى فرصة لتحقيق حلم الكاتب الذي يعيشه منذ سنوات، حيث التقت هنا أمنية كمال بطل الرواية العاشق، بحلم باموك. فهل يا ترى كمال وأورهان، هما شخص واحد عاش لسنوات طويلة في حب «فسون»؟
حكاية ينتقم فيها باموك باسم أبطاله من صناعة السينما التركية في مطلع الثمانينات، وطريقة تعاملها مع النجوم الجدد، وكيف سخروا من حبيبته وحاولوا التحرش بها والاستفادة من جمالها. ضمنها الكثير من ضجيج اسطنبول وعجقة سيرها وازدحامها وجيّش لها عشرات الأماكن والأشخاص والأحداث، لكنه أصرّ على ربطها بحبكة روائية مميزة جمعت التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع وفن الحب والسرقة، تحت سقف واحد هو «متحف البراءة». «نيشان تاشي» قلب اسطنبول وأرقى أحيائها، هو مركز الرواية، حيث تقيم الأسرة، لكنه يتنقل بنا دائما بين «تقسيم» و«شكور جمعة» و«حربية» و«بي أوغلو» حيث تتلاحق الاحداث. هي الحكاية الأطول التي يكتبها باموك بعد «جودت بيه وأبنائه» محتفظا بأسلوبه في إضفاء الحياة على أبطال روايته، ليتحركوا كما يشاءون ويتحدثوا في كل شيء، ويكتفي هو بمطاردتهم وتسجيل ما يقولون بأكبر قدر من الصدق والعفوية والصراحة.
حبكة داخل حبكة وقصة داخل قصة، قرر باموك في نهايتها وضع اليد على كل ما لامسته «فسون»، السرير، الشاهد والشيفروليه المتباهية، مطلقاً العنان لعالم الخيال وأماكن وقوع الأحداث وتخليد أبطاله عبر إحيائهم في متحف خاص لن يقصده سوى العشاق والأحباء.
اسطنبول في انتظارنا مرة أخرى بعد 3 أعوام على الأكثر، كما يعدنا باموك لنلتقي في هذا المكان، ونكون شهوداً على حب لم يكتمل قط. نحن هناك ليسترجع كل واحد منا حكايته على مرأى ومسمع «فسون» سيدة العشق التي علمنا باموك كيف نحميها ونرد جميلها.
حكاية أجمع النقاد والكتاب الذين قرأوها حتى الآن، على وصفها بالتحفة الرائعة التي تستحق أن تأخذ هي الاخرى مكانها في متحف البراءة، ويبدو أنهم مصيبون في ذلك. فالعقود والعروض تتلاحق، بعد وقبل صدور الرواية بالتركية يوم 30 أغسطس، لتصل حتى الآن الى 30 لغة ومئات آلاف النسخ، ستفتح أبواب الزيارة لمتحف البراءة، حيث قرر باموك، مرة اخرى اختراق الممنوعات في مجتمعنا الشرقي والتشهير بكل شيء من خلال حكاية غرام طويلة مليئة بالتفاصيل والتفرعات التي نحرص في أغلب الأحيان، على عدم البوح بها إما خجلاً او خوفاً او تجنباً للشماتة، وحتى لا تتفجر الأزمات والصراعات، وتتعرض التركيبات الاجتماعية والأسرية إلى التهديد والتشقق.
«متحف البراءة» حكاية متحف مليء بالأشياء، ولكل شيء حكاية، وكل حكاية تأخذ موقعها في الرواية.
اغراض المتحف ومحتوياته هي التي تتحكم في تسيير الاحداث والرواية وتتلاعب بها وتتقاذفها في كل صوب، من الانقلاب العسكري في مطلع الثمانينات الى صناعة السينما في تركيا وفنادق الخمسة نجوم التي تفتح أبوابها أمام العشاق، مروراً بدراجة الحبيبة. فكمال يوصي أن يكون المتحف متسامحاً مع كل العشاق الذين لم يجدوا مكانا يتبادلون القبل فيه.
بقي أن نتساءل عما اذا كان «متحف البراءة» سيفتح الطريق أمام باموك للمصالحة مع الكثيرين الذين قاطعوه وانتقدوه رغم نوبل، بسبب آرائه ومواقفه السياسية حيال اغتيال الصحافي الأرمني هرانت دينك، والهجرة من البلاد التي اغضبت القوميين المتشددين في تركيا، وحرمته كما يقول من التجوال في أحياء وأزقة اسطنبول القديمة، كما كان يفعل في السابق، لاهثاً وراء زاده اليومي. غضب جعل من حراسه ومرافقيه أقرب الأصدقاء الذين يقاسمهم حياته اليومية.
جريدة الشرق الاوسط