رواية الجريمة الكاملة

عناية جابر
بعض الروايات، بإيقاعاتها العميقة، ومقاطعها ذات الادراك الكثيف المتعدد المظاهر، تبدو لي مترعة بالقصائد. ومع ذلك، يبقى الشعر يعتز بادعائه أنه الملك. في الحقيقة، لم يعد العالم يحتاج أيا من هذين الصنفين الأدبيين. العالم يجلس امام الأحداث المتسارعة، مشدوها، متأثرا، مسحورا وأي محاولة لأي مبدع، شاعرا كان او روائيا، للتوقف وكتابة سطر في الحيرة حيال تسارع الأحداث، هو نوع من التمهل الأبله، سرعان ما يداس وتجتازه الأرجل.
الرواية الآن لا يمكن ان توجد، الا بواسطة الأحداث الموجودة في عصرها. الأحداث السريعة، اللاهثة التي تخطف انتباهنا، ولا تترك لنا فرصة للكتابة كتابة حقيقية أعني. بينما على مرمى أبصارنا، لا نجد سوى أشكال كتابة من نوع ما، خادعة، زائفة، مرتجفة، مهادنة، متملقة. أمام أحداث العالم غير المعقولة، لا تثبت تماما مستويات إبداعية كتابية ولا حتى مسطحات متواصلة. ثمة بعضها الذي يومض بعلاقات معقدة مع العالم، وبالتالي مع بعضها البعض. وثمة ما هو انحراف متطرف وخطير عن الابداع الحقيقي، الذي ما زلنا نغرف من أزمانه الماضية، وكتابه الذين مضوا وأثروا بشكل خالد. هذه الهيئات من الروايات، والقصائد، وضربات الفرشاة، والسينما وعروض المسارح والموسيقى والغناء الرائجين حاليا وإن جذبت النظر الى حين، تتلاشى سريعا كأنها انبثاقات من روح فارغة وقلم فارغ. وان تكن هذه الكتب التي تصدر بكثرة، وغير قابلة للكبح، فهذا لا يعني أنها مؤثرة، لأن ناسها في الأصل غير مؤثرين، ولأن العالم حولهم لا يمدهم بأشكال جمالية ورؤى. أرتال من الكتب مكدسة على طاولاتنا، ليس فيها ما يُغري على المطالعة، وكأنها تريد ان تقول ان ما من اضافة الى ما كُتب، وبأن الكتابة بحد ذاتها غدت خارج نطاق هذا العالم، المجرم والقبيح. الكتابة الآن تروّض أفكارا مروضة أصلا. لا استدعاء، لا خيال جميل. بهتان وكتابة مغرضة فلا رواية ولا شعر.. على الأقل في عالمنا العربي. ما يستحق ان يُكتب، ما يجب ان يُكتب فعلا، ويُفرد له المكان الفسيح في عالم الكتابة حاليا، هي الرواية البوليسية ان صح التعبير، رواية الجريمة الكاملة، ورواية الخيال العلمي، ويندرج تحتها ما يحدث حاليا »للغلابة« المصريين، في العبارات، وفي جبل المقطم، وفي حرائق المسارح، وخصوصا في عالم رجال الأعمال، حيث الجريمة فعل يومي يحكي جزء الفساد الآخذ بالناس »اللي فوق« وبالعالم أجمع.
السفير