مرشحة للبوكر واستبعاد رواية رشدي ‘ساحرة فلورنس’ بحر الخشخاش: الجزء الأول من ثلاثية روائية لاميتاف أغوش
ابراهيم درويش
في الاعلان الاخير عن القائمة النهائية لترشيحات جائزة بوكر للرواية الناطقة بالانكليزية حضر عملان من تأليف روائيين هنديين هما اميتاف غوش وارفيند اديغا فيما استبعدت لجنة التحكيم رواية سلمان رشدي الهندي الاصل هو الاخر، ‘ساحرة فلورنس’، وهي العمل التاريخي الاخير للمؤلف الحائز على جائزة البوكر (1981) ‘اطفال منتصف الليل’، وجائزة احسن كتاب من بين الروايات التي حازت على جائزة البوكر في الاربعين عاما الاخيرة. وحسب حكام الجائزة التي قررت اختيار ست كتب من بين 13 كتابا مرشحا في القائمة الطويلة، فـ ‘ ساحرة فلورنس’ لم يكن من بين الكتب الستة القوية، وعوضا عن ذلك اختارت اللجنة التي يترأسها الوزير المحافظ السابق مايكل بورتيللو رواية سبيستيان باري ‘ المخطوطة السرية’ وليندا غرانت ‘الملابس على قفاها’ وفيليب هينشر ‘ العفو الشمالي’ و ‘بحر الخشخاش’ لاميتاف غوش، وارافيند اديغا ‘النمر الابيض’ واخيرا ستيف تولتز ‘جزء من الكل’ والعملان الاخيران هما الاول لكل من الكاتبين. ورواية غوش هي الجزء الاول من ثلاثية تتابع رحلة سفينة ‘ابيس’ في طريق الافيون. وهي تفتح فضاء العالم الذي شارك او اجبر على المشاركة في حرب الافيون وتقدم الشخصيات الرئيسية في العمل التي نتابع ملحمتها وتقدم صورة عن زمن الامبراطورية البريطانية وتجادل مصالح الدين، والسياسة والمال. وغوش كاتب معروف كتب الكثير من الاعمال الروائية منها ‘القصر الزجاجي’، و ‘الموج الجائع’ و’ بلد عتيق’ وغيرها وعاش في مصر اثناء دراسته حيث كتب عنها الكثير، وفي مجموعته القصصية ‘الهندي والامام’ الكثير عن التحيزات والمواقف ان لم تكن النمطيات التي يحملها ابناء كل شعب عن الاخر، وتحاول القصة الرئيسية في المجموعة ‘ الهندي والامام’ مناقشة فكرة التجديد والحداثة في سياق ريفي مصري، وانطباعات السكان عن ‘الدكتور الهندي’ باعتباره قادما من ارض غريبة يسأل احد ابناء القرية ان كان بامكانه الوصول لبلده الهند في ستة اسابيع على ظهر حمار، ولكن الدكتور الهندي يقول انه لن يصل اليها ولو في ستة اشهر. ويبدو ان الفكرتين الرئيسيتين في القصة والتي تحاول ان تستكشفهما بنوع من السخرية الخفيفة هما، عبادة البقر، وحرق النساء، ومع ان خميس الفار احد ابناء القرية يكون متعاطفا مع الهندي في النقاش الحاد الذي دار بين الدكتور والامام ويعبر عن استعداد للرحيل معه وزيارته للهند، الا ان الفار يعبر عن رجاء للدكتور انه وان حصل ومات اثناء الزيارة فيرجو منه دفنه في الثرى وليس حرقه. فكرة غوش في القصة انه على الرغم من تماثل السحنة والبشرة بينه وبين الريفيين الا انهم وجدوا فيه هدفا للنقد وكانوا متحررين في الهجوم عليه وعدم تصديقه والامر يختلف لو كان محدثهما ابيض غربياً. على العموم فكرة هذه القصة القصيرة تصلح مدخلا لروايته الجديدة والتي يرى البعض ان لها حظا قويا للفوز في ‘بوكر’ والحصول على 50 الف جنيه في الحفل الذي سيقام في 14 تشرين الاول (اكتوبر) القادم.
الفكرة الرئيسية للرواية او ما سينتج عنه ثلاثية هي حرب الافيون التي اشعلتها بريطانيا الواثقة من نفسها ضد الصين الرافضة فتح ابواب بلادها للتجارة البريطانية، وفضاء الرواية وعالمها هو عالم الامبراطورية في القرن التاسع عشر، وسلطة شركة الهند الشرقية التي اوكلت لها مهمة توفير الافيون اللازم بزرع الحشيش واجبار المزارعين على زراعته بدلا من استخدام الارض لزراعة حاجياتهم الاساسية من البقول والارز. الصين في الرواية الاولى تبدو بعيدة الان تتسرب الينا اخبارها عبر التجار والمسافرين في البحار القريبة لكننا لسنا على اعتاب الحرب، في الجو غيوم، غطرسة وثقة ولغة يقدمها احد تجار الامبراطورية بيرنهام وصديقه التاجرالامريكي مستر داوتي لاحد ملاك الاراضي نيل راتان هالدر، الذي ورث ارضا واقنانا عن والده كانت في يد العائلة لمئات السنين، في حفل عشاء اقامه هذا الاقطاعي الهندوكي يتصرف التاجر الانكليزي بطريقة واثقة بان رفض الاقطاعي بيع املاكه لسداد ديونه سيكلفه ثمنا باهظا، سيدبر بيرنهام للاقطاعي في لحظة اخرى مؤامرة ليجرده من املاكه عبر استخدام خليلته ايلوكشي ، وينتهي نيل سجينا في واحد من سجون الامبراطورية التي اقامتها في جزر نائية مثل موريشوس وبينانغ في ماليزيا المعاصرة ، وتذكرنا بالسجون السوداء التي اقامتها امريكا لسجناء طالبان والقاعدة، ولكن سجون بريطانيا كانت مخفية عن الانظار، وضعت فيها الاقنان والسخرة والمجرمين. واللافت في النقاش الذي دار على مائدة نيل قبل اعتقاله احتفاء برجلي الاعمال ان التاجر الانكليزي بيرنهام لم ير مبررا من استخدام الافيون لفتح ابواب الصين، لحرية التجارة وحرية الصينيين كما قال. يقول ‘الحرب عندما تحضر لن تكون عن الافيون ولكن المبدأ، مبدأ الحرية، حرية التجارة وحرية الصينيين’ ويقول مضيفا ‘ اذا كانت مشيئة الرب ان يكون الافيون وسيلة لفتح الصين لتعاليم المسيح فليكن الامر كذلك’. وهي الاراء الحاضرة في داخل العمل هي تكرار لتبريرات الامبرطوريات عن الاحتلال والاستغلال والاستعباد للشعوب، مبررات تذكرنا بعبء الرجل الابيض في افريقيا لتنوير المتوحشين، وتبريرات جورج بوش عن مسيرة الديمقراطية والحرية التي تتقدم في العراق والشرق الاوسط. كذلك يشي حديث بيرنهام ان من يصنع الحرب ويصادق عليها ليس البرلمان البريطاني ولكن سادة الحرب وشركة الهند لانه لو انتظر هؤلاء موافقة البرلمان لما قامت حروب حسبما يقول بيرنهام.
الامر الاخر ان هذه الرواية باعتبارها فاتحة لملحمة ثلاثية فهي منشغلة بتشكيل الشخصيات والاحداث ولانها عن القرن التاسع عشر فالكاتب يحاول ان ينقل الينا اجواء هذا العالم بتنوع شخوصه ولغاته، لهجاته ورطاناته، وفي هذا الاطار فالرواية معقدة من ناحية المصطلح اذ انها تستكشف عالم الارض، النهر، البحر وهي التيمات التي تشكل اجزاء الرواية الثلاثة، ومن هنا فهو يقدم لنا مصطلحات الاقطاع والاقنان، والتجارة والطعام، واشكال القوارب والسفن، ولغة الموانئ والنقل وادواته، ومعها سيرة البحر والمسافرين عليه. ونعرف من خلال السرد ان سادة التجارة والمال والمرابين هم البريطانيون وبعض البارسيس ‘المجوس’ وفئة قليلة من الهنود المنتفعين. واذا كانت مهمة غوش صعبة في نقل المزاج والفضاء العام الذي غطى الحرب، فلأن الرواية الحالية تدور في الهند، فالكاتب يحاول ان يقدم تنوعا في الاصوات والوجوه كما هي موجودة على الارض، هنا الهندوكي والمسلم والمسيحي، التاجر والعبد والفلاح وسائق عربات الثيران، الباحث، والمربية، والاقطاعي والعسكري، هنا من يتحدث بالهندية والبنغالية والانكليزية ويقرأ القرآن بالعربية. وهذه هي الاصوات التي كانت تعيش في قلب الامبراطورية كجماعات وظيفية وجماعات للاستعباد والسخرة. ومن هنا يتبع غوش اسلوبا غير تقليدي في السرد، فكل قصة او لمحة تفتح الباب أمام رواية جديدة لان كل بطل له قصته الخاصة، تجربته التي تبدأ في مكان ما وتنتهي عند باب السفينة ‘ايبس’ التي يجعلها غوش في نهاية هذا العمل مركزا وملتقى للجميع يحملهم البحر نحو ارض غريبة من ارض لم يكونوا غرباء فيها الا لكونهم محتلين وفقراء ومستعبدين ومحرومين. لكن بين ركاب السفينة من كان غنيا وسيد اراض تحول في النهاية لمجرم. اذا تجاوز القارئ كل المصطلحات المتعلقة بالارض وملكيتها والتجارة والبحر والنهر والنقل وركز على قصة كل شخصية فسيتنهي لتكوين جو عام عن معنى حرب الافيون القادمة وظلالها وألاعيبها. يسكن رواية غوش طيف واسع يتحدث بالف لسان ولسان، ولكن المتحدثين الممثلين لهذا العالم،عالم شبه القارة الهندية وممثلي جلالة الملك يبرز منهم كما اشرنا التاجر بيرنهام ودواتي وزخاريا ريد والاقطاعي نيل راتان هالدر، وجودو ازاد ناسكار، بيير لامبار وابنته بوليت لامبار، ديتي وزوجها هوكام سينغ، وابنتها كابوتاري، ايلوكشي، خليلة نيل راتان، باريمال مساعد الاخير، وغيرهم من الوجوه والاصوات المساعدة. نواجه في البداية ديتي زوجة العسكري السابق في شركة الهند الشرقية التي قاتل معها في بورما (مانيمار) واصيب بعاهة هوكام سينغ. يعمل الاخير في مصنع لمعاملة مادة الافيون في مدينة غازي بور. ونقرأ في قصتها صورة عن اثر الافيون على زوجها الذي يقضي نهاره بعد العمل تحت اثر المخدرات، ونلاحظ ان ديتي لا تتمتع بحياة زوجية مستقرة، وتعتقد ان زوجها الذي لا يفيق من اثر المخدرات عاجز جنسيا. لكن كيف تفسر لنا سر حملها، تعود بنا الى ليلة زفافها حيث قامت حماتها باطعامها حفنة افيون وفي الصباح صحت على الم حاد بين فخذيها ودماء فيما تناثرت ملابسها في كل مكان، اما زوجها فقد كان نائما بكامل ملابسه، من اغتصبها، ليس زوجها ولكن شخصا اخر. بعيدا عن الاغتصاب والحمل، فهنا الفقر والاماني التي تحملها ديتي لاصلاح بيتها، ومشكلة اجبار المزارعين على زراعة الافيون بدلا من المواد التي يحتاجونها والدين الذي يعاني منه كل مزارع. غالبا ما نعرف عن قصة كل بطل عبر الاستعادة، فمثلا عبر رحلة ديتي في الحقول كي تستأجر عربة جارها كالاو لاخذ زوجها الذي تعرض لنوبة واغماء اثناء عمله في المصنع نعرف عن قصتها وداخل كل حكاية تقدمها لنا تظهر احيانا وجوه تحرف انظارنا عن حكاية ديتي ونقل زوجها للبيت اثناء الرحلة نعرف عن نيل وعشيقته اليوكشي، وزيارته لواحدة من اقطاعياته، ونعرف عن بيرنهام وقصة صعوده كتاجر في الامبراطورية، ونقرأ قصة عن بيوت الاسياد ومزارعهم وحياتهم الفارهة، ونتعرف على ازاد الذي عاد من قريته البعيدة بعد ان دفن والدته للبحث عن بوليت ابنة الباحث الفرنسي، الهارب من حكومة بلاده بعد معارضته لها، ونلتقي اخيرا مع ديتي في الفصل الرابع وهي لم تصل للمصنع. ويدخلنا غوش في اروقة المصنع الكبير ويصف رحلتها داخل المصنع على مدار اربع او خمس صفحات. رحلة ديتي مع ابنتها لغازي بوش على عربة كالاو الاولى في حياتهما. فيها تشاهدان عالما مختلفا عن عالم القرية. داخل الرحلة هنا قصة كالاو المصارع الفاشل الذي اكتفى من المصارعة بعربة نقل يجرها ثور، لكن هناك سراً خفياً بين كالاو وديتي، يعود الى ايام المصارعة عندما فشل في الفوز مما اغضب راعييه مالكي الارض حيث تعرض للاغتصاب امام عين ديتي التي كانت مختبئة بين حقول الافيون حيث اكتشفت الامر مصادفة في طريقها لنبع القرية، في تلك الليلة تكتشف ديتي ان الرجال يمكن ان يغتصبوا مثل النساء، وفي تلك الليلة تقوم ديتي بتنظيف الدم وروث الحصان من على جسد المصارع المهزوم وتبلل وجهه بالماء وتتحسس جسده لأول مرة في حياتها ولكنها تتركه ليقوم ويعود ذليلا لبيته. لا نعرف عن سر العلاقة الا عند وفاة زوج ديتي. ولكن قبل ذلك يعود هوكام سينغ لبيته عاجزا يقضي ايامه الاخيرة في هلوساته عاجزا عن الحركة. وتلاحظ ديتي الاهتمام الذي ابداه شقيق زوجها وفجأة بحالة شقيقه. في كل زيارة يتحرش بها ويحاول مس جسدها، ليكشف لها انه هو الذي اغتصبها بمساعدة والده ليلة زفافها وان ابنتها ليست ابنة الرجل الهامد بل ابنته ويطلب منها الزواج. ديتي ترفض وتقرر ان مات زوجها حرق نفسها مع جثته، وتأخذ بالاستعداد للامر بارسال ابنتها الى قريتها. ومن اجل تخفيف رحلة الانتحار حرقا تبدأ بتعاطي الافيون كي تنسى الالم. كل شيء كان جاهزا تلك الليلة، المحرقة والجمهور والاناشيد لكن امام رغبة الموت تنتصر ارادة الحياة عندما ينقذها كالاو من المحرقة ويحملها على لوح خشبي في رحلة نهرية تصل بهما بعد مفاجآت الى السفينة ‘ايبس’ كل الانهار تصب في المجرى الاخير، وكل الطرق تقود لايبس. فبوليت تصل بعد وفاة والدها في عزبة بيرنهام الى ‘ايبس’ وجودو الباحث عنها وكل الاشرار والاخيار والسادة والعبيد يصعدون الى سطح السفينة في الرحلة الموعودة. وايبس في النهاية هي شكل الامبراطورية وتجادلاتها، وهي حلم او مشروع السيد الذي اراده بوعي وبلا وعي. رواية ‘بحر الخشخاش’ عمل متداخل يحتوي على مستويات متعددة من السرد ومبني على تداخل في القصص والحكايات، تطمح لبناء عمل ملحمي ليس عن حرب الافيون ولكن عن حروب الامبراطورية واقتلاع الناس وتهجيرهم وتداخل اقدارهم، ‘ايبس’ قد تعني احيانا القدر الانساني المشترك، والقضاء اللامفر منه لكل صناع الحكاية في بحر الخشخاش.
ولد اميتاف غوش في كلكتا عام 1956 ونشأ في بنغلاديش وسريلانكا والهند ودرس في جامعة دلهي واكسفورد واصدر اول رواية له عام 1986 ‘دائرة المنطق’، وله عدد آخر من الروايات منها ‘قصر الزجاج’، و’خطوط الظل’ ويعيش متنقلا بين كلكتا ونيويورك.
ناقد من اسرة ‘القدس العربي