صفحات ثقافية

الدَّيْـــــــن

null
عباس بيضون
لا اشك في ان كل عربي يجد لزاما عليه ان يقول كلمة في محمود درويش. كلمة، اي كلمة. تحية اي تحية، عليه ان يخرج هذا الاسم من قلبه، ان يعيد رسم حروفه، ان يهجئه بالشغف او الحكمة او الزفير. المهم ان يقوله في العلن، ان يشهره على الملأ. ان يتخلص منه كاعتراف، كحريق في الدم، كرغبة او كشوق او كندم. لا اشك في ان كل عربي يريد اليوم ان ينشر اسم محمود درويش بصوته او بشهيقه او حتى بدموعه. ان ينشره على الجدران والأوراق والقمصان والرسائل. انه دين في عنقه لا بد من الوفاء به. دين نحو نفسه او نحو راحليه جميعا او نحو خساراته كلها او نحو مستقبله الذي من رماد. لا اظنه يعرف ولا اظنه يقدّر، فالدين غالبا غامض ولا سبيل الى رفعه، انه على كتفه او هو كتفه نفسه، على رأسه او هو رأسه، انه جبل او هو الاسى وقد صار جبلا (تذكروا خليل مطران)، او هو الفراغ التي توقفت عنه الصرخة او انشرخت، الفراغ الذي ابتلع الشوق والحكمة، الفراغ الذي يطل امامنا ولا سبيل الى اختراقه. انه ايضا الصحراء، مؤاخاة الشوق والعطش، مؤاخاة القلب والنفاد. الدَيْن الذي وحده بلا شريك ولا يُحدّ ولا يبلغ ولا يشبه إلا نفسه، ولا نفرق اذا كان كلمة الله او كلمة القدر، اذا كان تاريخاً او غربة او تنزيلاً او مدينة غارقة. رحيل مثل محمود درويش عود الى الدَّيْن او دعاء له، يفتح الجبل او الضريح ليستقبل جديداً. انه الدَّيْن الذي لا تدركه الابصار، يحضر معقوداً من السماء الى الأرض. انه تاريخنا وماضينا ومستقبلنا وتراثنا وأشواقنا على ظهرنا او على صدرنا او على رؤوسنا، مثل محمود درويش في رحيله يستعد ليتحد مع هذا الجرف الذي لا جهات له، ليكون سفيراً للماضي والمستقبل، غرضا للرثاء او المديح، بابا للملحمة او الاهجية او الغناء. واكثر من ذلك سيغدو توأم الهزيمة والنصر، جهة الغرب الشرق، مركب السماء والأرض. واكثر من ذلك، الكلمة التي لا نعرف لمن نطعمها، نقولها للقدر فنسمعها من المستقبل، نقولها للأرض فنسمعها من السماء، نبيعها للحاضر فنسمعها من الماضي، انه حاجتنا لنرقص في جهة غير موصوفة، في زمن بلا متى، في مكان بلا أين، في لغة بلا متعينات. انه حاجتنا لنفرش هذه اللغة بساطاً طائراً ولنرحل في جهتين او ثلاث معاً. حاجتنا لنكون تاريخا بثلاثة رؤوس. حاجتنا لنكون حبا بقلب مزدوج وشوقاً بعشرة ألسنة. حاجتنا لنكون زمن متراجعا الى الامام، حاجتنا باختصار لنفتح ضريحنا الكبير ونعيد اغلاقه.
كل عربي يرى ان عليه قول كلمة في محمود درويش. في هذا اليوم تفتح الخزائن ولا بد لكل عربي ان يلقي اسما، تفتح المغالق وعلى كل عربي او يعوّذ اسمه باسم آخر. في هذا اليوم يُفتح العتاد ولا بد لكل عربي من ان يلقي سيفا، لكن الخزانة التي تفتح اليوم ليست خزانة السيوف. انه شاعر هذا الذي نضيفه اليوم الى ديننا الكبير ولن يكون صعبا ان نخاطبه. انه شاعر لكننا لا نخطئ ان نرصعه باليواقيت ذاتها التي نرصع بها السيوف. انه شاعر لكننا سنهدي إليه الأوسمة والرتب اياها وسنولج إليه ايضا ان يقف في بوابة النصر، وربما ان يتسلم مفتاح المدينة. سنسميه ضارعين ونسميه خاشعين ونسميه مرة ثالثة وسيكون عليه ان يبتعد عن اسم صار سيفا في أيدينا، عن اسم صار قبراً. الشاعر والجنرال برأس واحد عندنا والقصيدة برأسين، احدهما للثأر والثاني للقبر. محمود درويش كان الشاعر مضافا الى قتيل اخر، الشاعر مضافا الى عشب القتلى، مضافا الى قتلى مجزوزين كالقمح، مضافا الى عشب يتكلم برؤوس المهزومين والقتلى، مضافا الى قتلى صاروا سحائب وعشبا، مضافا الى كلمات نمت على القبور، مضافا الى اعشاب وطيور وسحائب واسماكاً ورؤوس هنود حمر واحصنة واطفالاً طاروا من القبور والكلمات ووجوه المهزومين.
كل عربي سيجد لزاما عليه ان يقول كلمة لمحمود درويش وهو يبتعد، ليس أي كلمة، ليس أي تحية. انها حاجته الى حَجَر اخر في دَيْنه، الى اسم من حديد، الى سيف اخر. لا يهم ان نكون الكلمات هي ثروة الشاعر. الكلمات يمكنها ان يكون مدافن في لغة مجروحة، الكلمات يمكنها ان تكون حروباً في معارك الوهم حيث الخوذ تتخيل بدل الــرؤوس او داخــل الرؤوس. حيث صليل المعارك ينغّم البحر الطويل والبسيط وحيــث القــوافي تنــصب كالـرؤوس المرفوعة على الحراب، وحيث الطبول تواكب المنتصرين او المــهزومين في أوزان النصر.
كل عربي سيقول كلمة في محمود درويش. تحية، كلمة، وردة اوفي الحقيقة رصاصة خلّباً، رصاصة طائشة باسم قتيل غير متعين، او قتيل بلا اسم. انه دَيْن واليوم تفتح خزائن الدَّيْن. اليوم في رحيله سيكون درويش كل ما خسرناه واردناه. كل ما فاتنا ونشفق ان يفوتنا، كل ما نشتاقه او نتخيل اننا نشتاقه. انه دَيْن والعربي يتجه الى المستقبل مثقلا بنفسه ودَيْنه. اما الموت الذي لا يصدق ويحتاج الى ان نتحراه جثمانا وتابوتا وضريحاً ولنتجرعه نعياً نعياً، اما الموت الذي لا يُصدَّق فهو موت الذين فاتنا ان نلاحظ، الا حين رحيلهم، انهم يقعدون على دَيْن وانهم يتركون لنا دَيْناً وانه برحيلهم غير المعقول يزداد ثقلا. اشخاص ننتظر موتهم لنعرف اننا لا نستحقهم واننا نزداد فقرا وعجزا عن السداد. سنتكلم مع ذلك أي شيء سندفع بأي عملة، سنسمي بأي اسم، سندفع من افلاسنا وسنشهد بأي كلام للدَيْن العظيم الذي يُفتح لنا تلك الساعة كالقبر.
كل عربي سيقول كلمة في محمود درويش. لكن الذي يحصل بعد كل شيء تل من الكلمات. سيزداد التراب على القبر. سيزداد الصراخ والصليل والخوذ. سيُنصب صنم كبير محل الدَيْن العظيم، اما الشاعر فسيكون عليه بعد موته ان يعمل اكثر ليغسل الزهور والأصداف والكلمات مما القي عليها وما يلقى. السيوف كثيرة والأنياب كثيرة والسمك الميت كثير وسيجلس الشاعر في قبره ليعيد غسل الكلمات
ملحق السغير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى